نقد كتاب الدر الفريد في بيان حكم التقليد
المؤلف أحمد بن محمد الحموي توفي سنة (ت1098هـ) والكتاب يدور حول حكم التقليد فى الأحكام وسبب تأليفها الرد على من رفض التقليد كما قال الحموى:
"هذه رسالة في بيان حكم التقليد فيه رد على كل مخالف عنيد سميتها بـ((الدر الفريد في بيان حكم التقليد))"
وقد استهل الرسالة ببيان معنى التقليد وأنواعه فقال:
"التقليد: جعل الشيء كالقلادة في العنق، حقا كان أو باطلا وهو أنواع:
واجب، وجائز، وحرام
فالواجب: تقليد المعصوم عن الخطأ، وهو النبي (ص) المبعوث بالحق، وهذا ليس بتقليد حقيقة؛ إذ التقليد في الشرع: عبارة عن قبول قول الغير من غير أن يعرف حقيقته، لكن يسمى تقليدا عرفيا
والتقليد الجائز: تقليد العوام لعلماء الدين في الفروع بالإجماع
وفي أصول الدين مختلف فيه؛ لاستواء المكلفين به في أصله، وهو النظر، والاستدلال فيما كان معقولا، وسهولة التعلم لما كان منقولا، خاصة قدر ما يتعلق به صحة الإيمان والإسلام
وفي تقليد العالم للعلماء في الفروع أيضا اختلاف
أما التقليد الحرام: فهو كتقليد الآباء والأكابر في الأباطيل كذا في ((الحاوي القدسي)) "
والتقليد هو عمل ما عمله الغير وهو ما سماه الله الاقتداء والاقتداء فى الإسلام ليس اقتداء بأشخاص حتى ولو كانوا الرسل (ص) وإنما الاهتداء بالهدى وهو الوحى المنزل عليهم كما قال تعالى :
"فبهداهم اقتده"
والسبب هو كون الرسل0ص) بشرا يصيبون ويخطئون وقد أقر النبى(ص) بذلك فى قوله تعالى:
"قل إنما أنا بشر مثلكم"
ومن ثم كانت بعض أعمالهم ذنوبا لا يصح الاقتداء بها ولما كنا لا نعرف مقياسا سوى الوحى لأعمالهم فقد وجب الاهتداء بوحيهم
وبين الحموى كما زعم حقيقة التقليد فقال :
"وحقيقة التقليد: العمل بقول من ليس قوله إحدى الحجج الأربع الشرعية بلا حجة فيها، فليس الرجوع إلى النبي (ص) والإجماع من التقليد؛ لأن كلا منها حجة شرعية من الحجج الأربع، وعلى هذا اقتصر ابن الهمام في ((تحريره))
وقال ابن أمير حاج: وعلى هذا عمل العامي بقول المفتي، وعمل القاضي بقول العدول؛ لأن كلا منهما وإن لم يكن من إحدى الحجج، فليس العمل به بلا حجة شرعية؛ لإيجاب النص أخذ العامي بقول المفتي، وأخذ القاضي العدول انتهى
قال شيخنا: وفيه تأمل؛ لأن النص وإن أوجب أخذ العامي بقول المفتي مجردا عن الدليل، فعدم علمه بالدليل تقليد في الحكم، وإلا لزم العامي أيضا فتوى المفتي، وليس بلازم إلا بالإمضاء بالفعل انتهى
قال ابن أمير حاج: ما نصه: قال الروياني: يجوز تقليد المذاهب والانتقال إليها بثلاثة شروط:
أن لا يجمع بينها على صورة يخالف الإجماع كمن تزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود، فإن هذه الصورة لم يقل بها أحد انتهى
قال شيخنا: وهذا مؤيد، بل نص في دفع جواز التلفيق؛ لأن الشيء ينتفي بانتفاء ركنه أو فقد شرطه انتهى
قال الروياني :
وأن يعتقد فيمن قلده الفضل بوصول أخباره إليه، ولا يقلد أميا في عماية
وأن لا يتبع رخص المذاهب
وتعقب الشرط الأول: بأن الجمع المذكور ليس بضار؛ فإن مالكا مثلا لم يقل: إن من قلد الإمام الشافعي في عدم الصداق أن نكاحه باطل، وإلا لزم أن تكون أنكحة المالكية بلا شهود عنده باطلة
قال شيخنا: لكن في هذا التوجيه نظر غير خاف، ومن المعلوم أنها لا تكون أنكحة عند القائل بها إلا بشروطها، وإلا فليست أنكحة، فانتفى جواز التلفيق انتهى
ووافق ابن دقيق العيد الروياني على اشتراط: أن لا يجتمع في صورة يقع الإجماع على بطلانها وأبدل الشرط الثالث: بأن لا يكون ما قلد فيه مما ينقض به الحكم لو وقع
واقتصر العز ابن عبد السلام على اشتراط هذا، وقال: وإن كان المأخذان متقاربين جاز
والشرط الثاني: انشراح الصدر للتقليد المذكور، وعدم اعتقاد لكونه متلاعبا بالدين متساهلا فيه
واعلم أنه يجوز التقليد بهذا لعمل بما يخالفه أن يخالف ما قلد فيه، ولا يخالف هذا ما في ((تحرير)) المحقق ابن الهمام من أنه: لا يرجع فيما قلد فيه؛ أي عمل به اتفاقا؛ لحمل المنع على خصوص العين لا خصوص الجنس، أو حمله على ما إذا بقي من آثار العمل الأول ما يلزم عليه مع الثاني تركب حقيقة لا يقول بها كل من الإمامين، كتقليد الشافعي في مسح بعض الرأس والإمام مالك في طهارة الكلب في صلاة واحدة
وفي ((العقد الفريد)) للمحقق السيد السمهودي: المختار أن كل مسألة اتصل عمله بها فلا مانع من اتباع غير مذهبه الأول، وبه يعلم ما في حكاية إطلاق الاتفاق على المنع، ولعل المراد اتفاق الأصوليين
ثم إن كان المراد من المنع الرجوع حيث عمل في الواقعة عين تلك الواقعة المنقضية لا ما يحدث بعدها من جنسها فهو ظاهر؛ كحنفي سلم شفعة بالجوار عملا بقصده، ثم عن له تقليد الشافعي كي ينزع الxxxx ممن سلمه له، فليس له ذلك كما أنه لا يخاطب بعد تقليده للشافعي بإعادة ما مضى من عباداته التي يقول الشافعي ببطلانها؛ لمضيها على الصحة في اعتقاده فيما مضى
فلو شرى هذا الحنفي بعد ذلك xxxxا آخر وقلد الشافعي في عدم القول بشفعة الجوار، فلا يمنعه ما سبق من أن يقلده في ذلك، فله أن يمتنع عن تسليم الxxxx الثاني، فإن منع في مثل هذا، أو عمم ذلك في جميع صور ما وقع العمل به أولا، فهو غير مسلم، ودعوى الاتفاق عليه ممنوعة
ففي ((الخادم)): أن القاضي أبا عاصم العامري الحنفي كان يفتي على باب مسجد القفال، والمؤذن يؤذن المغرب فترك ودخل المسجد، فلما رآه القفال أمر المؤذن أن يثني الإقامة وقدم القاضي فتقدم وجهر بالبسملة مع القراءة وأتى بشعار الشافعي في صلاته انتهى
ومعلوم أن القاضي أبا عاصم إنما يصلي بشعار مذهبه، فلم يمنعه سبق عمله بمذهبه في ذلك
وفي ((فتاوى السبكي )) ما نصه: ودعوى الاتفاق فيها نظر، وفي كلام غيرهما يعني الآمدي وابن الحاجب ما يشعر بإثبات الخلاف بعد العمل، وكيف يمتنع إذا اعتقد صحته، ولك وجه ما قالا: أنه بالتزامه مذهب إمام يكلف به ما لم يظهر له الغير …، بخلاف المجتهد حيث ينتقل من إمارة إلى إمارة، ولا بأس بهذا الوجه لكنني أرى تنزيله على خصوص العين، فلا يبطل عين ما فعله، وله فعل جنسه بخلافه انتهى ملخصا كلام السيد"
وما سبق من الكلام هو ابتعاد عن الموضوع تماما إلى موضوع أخر وهو تقليد الفقهاء والمسلم ليس مطالبا بتقليد أحد مهما كان علمه وإنما مطالب بشىء واحد وهو :
اتباع الوحى المنزل كما قال تعالى :
" اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم"
وهو ما سماه التحاكم إلى الوحى المنزل فقال :
" ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"
وكل من قلد بشرا وهو يعرف نصا من كتاب الله يخالفه فقد كفر بالوحى المنزل
وأما تقليد الجاهل لمن ظنه علمه فهو جائز فيما جهله طالما لم يعرف النصوص الإلهية لأنه اتباع فى تلك الحالة لقوله تعالى :
" فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون"
وحدثنا الحموى عن جواز العمل بمذاهب مختلفة فى المسائل المختلفة فقال :
"واعلم أنه يجوز العمل بجملة مسائل كل منها على مذهب إمام مستقل:
قال المحقق ابن الهمام: وهل يقلد غيره: أي غير من قلده أولا في شيء في غيره: أي غير ذلك الشيء كأن يعمل أولا في مسألة بقول الإمام رضي الله عنه وثانيا في أخرى بقول مجتهد آخر، المختار كما ذكره الآمدي وابن الحاجب: نعم للقطع بالاستقراء التام بأنهم؛ أي المستفتين في كل عصر في زمن الصحابة وهلم جرا كانوا يستفتون مرة واحدا ومرة غيره غير ملتزمين مفتيا واحدا، وشاع ذلك الأمر وتكرر ولم ينكر انتهى كذا في ((شرح ابن أمير حاج))
لكن يفهم منه منع التقليد في جنس ما عمل به، وهو مناقض لما جزمنا به أولا، إلا أن يحمل على غير المختار، ولا يمنع منه دعوى الإجماع لما تقدم من عدم تسليمه، وحمل المنع على بقاء أثر يؤدي إلى الجمع بين ما لا يقول به كل من الإمامين المقلدين؛ إذ السؤال وعدم التزام مذهب شامل للعمل ثابتا بخلاف ما عمل أولا، وهذا إذا لم يلتزم مذهبا معينا، فلو التزم مذهبا معينا كالإمام أبي حنيفة أو الشافعي، فهل يلزم الاستمرار عليه، فلا يقلد غيره في مسألة من المسائل
فقيل: يلزم، كما يلزمه الاستمرار في حكم حادثة معينة قلد فيه؛ ولأنه اعتقد أن مذهبه حق، فيجب عليه العمل بموجب اعتقاده
وقيل: لا يلزم، وهو الأصح؛ لأن التزامه غير ملزم؛ إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله تعالى ورسوله (ص)، ولم يوجب على أحد أن يتمذهب بمذهب رجل من الأئمة، فيقلده في كل ما يأتي، ويذر دون غيره، والتزامه ليس بنذر حتى يجب الوفاء به
وقيل: الملتزم كمن لم يلتزم إن عمل بحكم المقلد المجتهد، لا يرجع عنه: أي عن ذلك الحكم، وفي غيره: أي غير ذلك الحكم له تقليد غيره من المجتهدين، وهذا القول في الحقيقة تفصيل للقول الثاني، وهو الغالب على الظن لعدم ما يوجبه: أي لزوم اتباع من التزم تقليده شرعا: أي إيجابا شرعيا، إذ لا يجب على المقلد إلا اتباع أهل العلم؛ لقوله تعالى: ((فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون))
وليس التزامه من الموجبات شرعا، ويتخرج منه: أي من جواز اتباع غير مقلده الأول، وعدم التضييق عليه، جواز اتباع رخص المذاهب: أي أخذه من المذاهب ما هو الأهون عليه فيما يقع من المسائل، ولا يمنع منه مانع شرعي، إذ للإنسان أن يسلك المسلك الأخف عليه إذا كان له إليه سبيل، بأن لم يكن عمل بآخر: أي بقول آخر مخالفا لذلك الأخف فيه: أي في ذلك المحل المختلف فيه كذا في ((شرح السيد بادشاه على التحرير))
وقول ابن حزم: إن متبع الرخص فاسق بالإجماع لم يؤخذ به، وهو مردود بما أفتى به العز بن عبد السلام من أنه لا يتعين على العامي إذا قلد إماما في مسألة أن يقلده في سائر مسائل الخلاف؛ لأن الناس من زمن الصحابة رضي الله تعالى عنهم إلى أن ظهرت المذاهب يسألون فيما يسنح لهم العلماء المختلفين من غير نكير، وسواء اتبع الرخص في ذلك أو العزائم؛ لأن من جعل المصيب واحدا، وهو الصحيح، لم يعينه، ومن جعل كل مجتهد مصيب فلا إنكار على من قلد في الصواب
وأما ما حكي عن ابن حزم فلعله محمول على من تتبعها من غير تقليد لمن قال بها، أو على الرخص المركبة في الفعل الواحد كذا في ((العقد الفريد))
بل قيل: لا يصح للعامي مذهب؛ لأن المذهب لا يكون إلا لمن له نوع نظر وبصيرة بالمذهب، أو لمن قرأ كتابا في فروع مذهب وعرف فتاوى إمامه وأقواله، وأما من لم يتأهل لذلك بل قال: أنا حنفي أو شافعي لم يصر من أهل ذلك المذهب بمجرد هذا
وقال الصلاح العلائي: والذي صرح به الفقهاء في مشهور كتبهم جواز الانتقال في آحاد المسائل والعمل فيها بخلاف مذهبه إذا لم يكن على وجه التتبع للرخص
قال شيخنا: والمراد بخلاف مذهبه المسائل التي عمل بها لا التي اعتقدها بدون عمل؛ لقول الكمال: ثم حقيقة الانتقال ـ أي عن المذهب ـ إنما تتحقق في حكم مسألة خاصة قلد فيه وعمل به، وإلا فقوله: قلدت الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه فيما أفتى به من المسائل مثلا أو التزمت العمل به على الإجمال، وهو لا يعرف صورها ليس حقيقة التقليد، بل هذا حقيقة تعليق التقليد أو وعد به، لأنه التزم أن يعمل بقول الإمام رضي الله تعالى عنه فيما يقع له من المسائل التي تتعين في الوقائع فإن أرادوا ـ يعني المشايخ القائلين من الحنفية بأن المنتقل من مذهب إلى مذهب آثم يستوجب التعزير ـ أن أرادوا هذا الالتزام، فلا دليل على وجوب اتباع المجتهد المعين بالزامه نفسه ذلك قولا أو نية شرعا
قلت : وكذلك لا يلزم بالعمل على الصحيح كما تقدم انتهى
بل الدليل اقتضى العمل بقول المجتهد فيما إذا احتاج إليه بقوله تعالى: ((فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون))، والسؤال إنما يتحقق عند طلب حكم الحادثة المعينة، [و]حينئذ إذا ثبت عنده قول المجتهد وجب عليه [عمله] به كما نقله السيد علي السمهودي
ثم في غير كتاب من الكتب المذهبية المعتبرة أن المستفتي إذا أمضى قول المفتي لزمه وإلا فلا
ثم قالوا: إذا لم يكن الرجل فقيها فاستفتى فقيها فأفتاه بحلال أو حرام، ولم يعزم على ذلك ـ يعني لم يعمل به ـ حتى أفتاه فقيه آخر بخلافه، فأخذ بقوله وأمضاه، لم يجز له أن يترك ما أمضاه فيه ويرجع إلى ما أفتاه به الأول؛ لأنه لا يجوز له نقض ما أمضاه مجتهدا كان أو مقلدا؛ لأن المقلد متعبد بالتقليد كما أن المجتهد متعبد بالاجتهاد
ثم كما لم يجز للمجتهد نقض ما أمضاه، فكذا لا يجوز للمقلد؛ لأن اتصال الإمضاء بمنزلة اتصال القضاء بمنع النقض، فكذا اتصال الإمضاء انتهى من ((شرح التحرير)) لابن أمير حاج "
إذا المسلم يجوز له أن يعمل بأى مذهب وجد فيه نص من الوحى يحكم فى المسألة وأما اتباع مذاهب لمجرد تماحيك كلامية بلا دليل من وحى الله فلا يجوز للمسلم اتباعها بحال من الأحوال ككل المسائل التى اختلفوا فيها وأقاموا خلافاتهم فيها على روايات آحاد
وحدثنا عن العمل بقول المفتى فقال :
"بقي هل مجرد وقوع جواب المفتي وحقيته في نفس المستفتي يلزمه العمل به:
فذهب [ابن] السمعاني إلى أن أولى الأوجه أن يلزمه، وتعقبه ابن الصلاح بأنه لم يجده لغيره
قلت: وما ذكره [ابن] السمعاني يوافق ما في ((شرح الزاهدي على مختصر القدوري )): وعن أحمد العياضي العبرة بما يعتقده المستفتي فكل ما اعتقده من مذهب حل له الأخذ به ديانة ولم يحل له خلافه
وفي ((رعاية الحنابلة)): ولا يكفيه ما لم تسكن نفسه إليه
وفي ((أصول ابن مفلح )): الأشهر يلزمه التزامه، وقيل: وبظنه حقا، وإن لم يجد مفتيا آخر لزمه كما لو حكم به حاكم انتهى
يعني ولا يتوقف ذلك على التزامه ولا سكون نفسه إلى صحته كما صرح به ابن الصلاح، وذكر أنه الذي تقتضيه القواعد
وفي ((أمالي محمد)): لو أن فقيها قال: لامرأته أنت طالق البتة، وهو ممن يراها ثلاثا، ثم قضى عليه قاض بأنها رجعية وسعه المقام معها، وكذا كل قضاء مما يختلف فيه الفقهاء من تحريم أو تحليل أو عتاق، أو أخذ مال غيره، ينبغي للفقيه المقضي عليه الأخذ بقضاء القاضي، ويدع رأيه، ويلزم نفسه بما ألزمه القاضي ويأخذ ما أعطاه
قال محمد: وكذلك رجل لا علم له ابتلي ببلية فسأل عنها الفقهاء فأفتوه بحلال أو حرام، وقضى عليه قاضي المسلمين بخلاف ذلك، وهو مما يختلف فيه الفقهاء، فينبغي له أن يأخذ بقضاء القاضي ويدع ما أفتاه الفقهاء وان قضى له بحلال أو حرام، ثم رجع إلى قاض آخر فقضى له في ذلك بشيء بعينه بخلاف قضاء الأول، وهو مما يختلف فيه الفقهاء أخذ بقضاء الأول وأبطل قضاء الثاني؛ لأن الحكم إذا وقع في موضع اجتهاد لم يجز لقاض من القضاة فسخه ولا يؤثر حكم الثاني إلا أن يكون الأول لا يسوغ فيه الاجتهاد، فلا يعتد به
قال محمد: ولو أن فقيها عالما، قال: لامرأته أنت طالق البتة، وهو يرى أنها ثلاث، وأمضى رأيه فيما بينه وبينها، وعزم على أنها حرمت عليه، ثم رأى رأي عمر بن الخطاب في ذلك هو الصواب، وأنها تطليقة واحدة يملك الرجعة، أمضى رأيه الذي كان عزم عليه من امرأته، ولا يردها زوجة برأي حدث فيه، ولا يشبه هذا قضاء القاضي له بخلاف رأيه الأول؛ لأن قضاء القاضي يهدم الرأي، والرأي لا يهدم الرأي
وإن كان يرى أنه البتة رجعية، فعزم على أنها واحدة يملك الرجعة، فعزم على أنها امرأته، ثم رأى أنها ثلاث تطليقات، وأنها لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره لم تحرم، وكانت امرأته على حالها، وهذا على ما قدمناه أنه إذا عزم على إمضاء الاجتهاد لم ينفسخ باجتهاد آخر كذا في ((شرح الكرخي على القدوري))
فسر من ذهب عليه فمنع من قلد الإمام الأعظم في نقض وضوئه بخروج الدم مثلا في صلاة وطهارتها من تقليده الإمام مالك في عدم النقض به في صلاة أخرى وطهارتها بما يتوهم من بعض العبارات أو بما قال في ((جامع الفصولين)): ولم يجز لحنفي أن يأخذ بقول مالك والشافعي فيما خالف مذهبه، وله أن يأخذ بقول قاض حكم عليه بخلاف مذهبه انتهى
لأن المنع من تقليد الإمام مالك على أحد الأقوال الثلاثة فيمن التزم مذهبا معينا أنه يلزمه، فلا يقلد غيره في مسألة من المسائل، والأصح أنه لا يلزمه، كما قدمناه عن شارحي ((التحرير))، وهو على ما إذا بقي من آثار العمل السابق ما يمنع اللاحق كما قدمناه
وليس العمل بما يخالف ما عمله إبطال لعلمه السابق؛ لأن المقلد متعبد بالتقليد كالاجتهاد، واللاحق لا يبطل السابق كما في قضاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في المسألة المشتركة
وقد قلنا: إن قول العلامة المحقق ابن الهمام في ((التحرير)) الذي قدمته لا يرجع فيما قلد فيه اتفاقا، معناه: الرجوع في خصوص العين لا في خصوص الجنس فنقض ما فعله مقلدا في فعله إما بالصلاة طهر بمسح ربع الرأس ليس له إبطالها باعتقاده بعد التمام لزوم مسح كل الرأس، كما قد علمته، لا الرجوع بمعنى منع الشخص من تقليده غير إمامه في شيء بفعله، مخالفا لما صدر منه كصلاة يوم على مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة، وصلاة يوم على مذهب غيره، وإن كان المراد بالرجوع العمل في نظير ما مضى بخلاف معتقد من قلده كما يتراءى من ظاهر متن ((التحرير)) وشرحيه، ففي كل منهما خلافه مع ذلك، قد علمت تقييده بما تقدم
واعلم أنه يصح التقليد بعد الفعل كما إذا صلى ظانا صحتها على مذهبه، ثم تبين بطلانها في مذهبه وصحتها على مذهب غيره، فله تقليده ويجتزئ بتلك الصلاة على ما قال في ((البزازية))
فتحصل مما ذكرناه أنه ليس على الإنسان التزام مذهب معين، وأنه يجوز له العمل بما يخالف ما عمله على مذهبه مقلدا فيه مستجمعا شروطه، ويعمل بأمرين متضادين في حادثتين لا تعلق لواحدة منها بالأخرى، وليس له إبطال عين ما فعله بتقليد إمام آخر؛ لأن إمضاء الفعل كإمضاء القاضي لا ينقض "
العمل بقول المفتى يجوز إذا كان مبنيا على نص من كتاب الله وأما إذا كان مبنيا على غير ذلك قلا يجوز اتباعه إذا علم المستفتى نصا يخالفه وأما فى حالة الجهل فيجوز العمل بقول المفتى بعد استقصاء المستفتى الكثير من الفقهاء بناء على قوله تعالى :
" وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم"