اللطف وآثاره الجانبية الخمسة
كمسلم متعايش مع القرآن الكريم لا بد أن تكون قد قرأت أو سمعت كلمة “لطيف” التي جاءت في القرآن الكريم مرات عديدة صفة لله جل جلاله، منها قوله تعالى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ}، ولكنْ هل توقفت مع تلك الصفة (لطيف) وقفة تأمل حقيقية وخرجت منها بنتائج إيجابية؟ هل حاولت أن تمارس اللطف مع غيرك في لحظة من لحظات حياتك؟ هل شعرت يوماً من الأيام بأن اللطف له آثار إيجابية على نفسك وعلى من حولك؟ بغض النظر عن نوع إجابتك على هذه الأسئلة، اسمح لنا أن ندعوك إلى قراءة آيات اللطف في القرآن الكريم وتفسيراتها، ثم الاطّلاع على كتاب “اللطف وآثاره الجانبية الخمسة” للكاتب ديفيد هاميلتون الذي يقدم لنا أفكاراً مهمة حول أهمية اللطف في حياة الإنسان تؤكد أننا لطفاء بالفطرة وأننا جميعاً نتأُثر باللطف ونحتاج إليه. السبب الذي جعلنا ندعوك إلى قراءة آيات اللطف لا يحتاج إلى توضيح فالمسلم مطالب بالمواظبة على قراءة القرآن وتفاسيره، أما السبب الذي جعلنا ندعوك إلى الاطلاع على كتاب “اللطف وآثاره الجانبية الخمسة” فهو أننا نعتقد أنه قد يمنحك شعوراً أفضل وسعادة أكبر وحياة أحسن، فالدكتور ديفيد يرى أنك حين تقرأ كتابه هذا “سوف تتعلم كيف أن اللطف يُحدث تبدلاً في الدماغ، وكيف أنه يُوسّع الشرايين ويخفض من ضغط الدم، سوف تتعلم أنه مضاد للاكتئاب، وأنه يبطئ سبعاً من العمليات الكبرى للشيخوخة”. ولأننا نريدك أن تستفيد من آثار اللطف العديدة، سنقدم لك من خلال هذه المقالة ملخصاً عن كتاب “اللطف وآثاره الجانبية الخمسة” لعله يدفعك إلى قراءة آيات وأحاديث اللطف الكثيرة المبثوثة في الكتب، والتي تدعونا بالطبع إلى ممارسة اللطف في حياتنا لكي نَسعد نُسعد غيرنا. اللطف والسعادة “يا لجمال يومنا عندما يلامسه اللطف”، هكذا عبّر جوج إليستون عن قيمة اللطف في يومنا. إذا افترضنا أن العلاقة بين اللطف والسعادة قد تبدو منذ الوهلة الأولى لدى البعض أمراً غير مستساغ، فإننا بمجرد النظر إلى التجارب اليومية والدراسات العلمية سنجد أن أول أثر من آثار اللطف أنه يجعلنا أكثر سعادة، وهذا شيء جميل في الحقيقة لم ينتبه إليه جميع الناس رغم فائدته العظمى على الإنسان. لقد أثبتت دراسات عديدة دور اللطف في جلب السعادة إلى الإنسان، ففي دراسة أجرتها “سونيا ليوبوميرسكي”، أستاذة علم النفس في جامعة كاليفورنيا، طُلب من المتطوعين القيام بخمسة تصرفات لطيفة أسبوعياً على مدى ستة أسابيع، وشملت تلك التصرفات: التبرع بالدم، ومساعدة صديق في الدراسة، وزيارة أحد الأقارب من كبار السن، وقد خرجت الدراسة بأن الأشخاص الذين قاموا بتصرفات لطيفة أصبحوا أكثر سعادة. ثم أجريت دراسة أخرى على حوالي خمسمائة شخص استمرت لمدة ستة أسابيع، تم تقسيم المشاركين في الدراسة إلى مجموعات، وطلب من بعض الأشخاص القيام بتصرفات لطيفة، في حين طلب من آخرين عدم القيام بأي تصرفات لطيفة على الإطلاق، وعند قياس العافية النفسية العاطفية لكل شخص بعد ستة أسابيع تم اكتشاف أن الأكثر سعادة هم أولئك الذين قاموا بتصرفات لطيفة تجاه الآخرين. والحقيقة أن اللطف الذي يجلب للإنسان السعادة لا يقتصر على اللطف مع الآخرين فقط، بل يشمل اللطف مع النفس أيضاً، واللطف مع النفس ليس بالضرورة أن يكون عبارة عن شراء شيء ما نحبه أو نحتاجه، بل قد يتم من خلال العمل على تغيير واقع علمي أو أخلاقي أو تطوير موهبة ذاتية أو إثبات القدرة على اتخاذ قرار مفيد، وكل ما يدخل تحت اللطف مع النفس يؤدي بالضرورة إلى الثقة في النفس، وبالتالي قمة السعادة وروعة الإنجاز. ومن مزايا اللطف أنه يسعد الصغار والكبار، وله دور كبير في التقليل من القلق الاجتماعي، ومضاد للاكتئاب، كما أنه دواء منشط لكبار السن، إنه يحفز هرمونات السعادة والفرح ويُفرز “السيروتونين” ويُسفر عن تغيرات فيزيائية في الدماغ، ثم إن اللطف له قوة خاصة تتمثل في أنه لا يجعلنا أكثر سعادة فقط، بل يتجاوز ذلك ليقوم بإحداث تحول في الحياة بشكل عام، فيجعل من نكون لطيفين معهم أكثر سعادة. اللطف والقلب قد يكون من المريح للإنسان إخباره بأن الأثر الثاني من آثار اللطف الخمسة تمثل في أنه مفيد للقلب، وأن اللطف يعطي الإنسان إحساساً دافئاً في الصدر، ويمنحه هرمون “أوكسيتوسين” الذي يعد مسؤولاً عن الآثار الإيجابية على القلب والشرايين، كما أنه مسؤول أيضاً عن مشاعر الثقة، ويساعد الأمهات على الارتباط بأطفالهن الرضع والوالدين على الارتباط بأولادهم. ولكن الشخص الذي ستقول له إن اللطف يحمي القلب من الأمراض قد يفاجئك بسؤال منطقي يقول نصه: كيف يستطيع اللطف حمايتنا من النوبات القلبية والسكتة الدماغية، وإذا أردت أن تقدم له إجابة سريعة فيمكنك أن تشير إلى المعادلة التي قدمها الدكتور ديفيد في شكل توضحي، وتتمثل في أن اللطف ينتج “الأوكسيتوسين” الذي بدوره يُنتج “حمض النتريك” و”ببْتيد مدر الصوديوم الأذيني” اللذين يعملان على توسيع الشرايين وتخفيض ضغط الدم، وهكذا يكون اللطف محصنا للقلب. أما كيف ينتج اللطف “الأوكسيتوسين”؟ فيمكن الإشارة إلى أن هناك ست طرق شائعة ننتج بها “الأوكسيتوسين”، منها: طمأنة شخص ما، ودعمك لصديق أو قريب. وعلى ذكر طمأنة الأشخاص ودعمهم، من المهم الإشارة إلى أن الترابط الاجتماعي له دور مهم في الوقاية من الأمراض القلبية، وفي هذا السياق قدم المؤلف مدينة “روسيتو” الأمريكية كمثال على دور اللطف في تماسك المجتمع والوقاية من أمراض القلب، فقد تم إجراء دراسة على سكان هذه المدينة استمرت سنوات عديدة وخرجت الدراسة بأنه لا يوجد من توفي بسبب مرض القلب تحت سن الخامسة والأربعين، وكان هذا الأمر سبباً في تقاطر العلماء من جميع أنحاء العالم على هذه المدينة (روسيتو) من أجل معرفة السبب المنطقي وراء هذه الظاهرة، وبعد سنوات من البحث المضني عن السبب “اكتشفوا أن الروابط الاجتماعية بين السكان هي التي عملت على حمايتهم من أمراض القلب”. وإذا كان اللطف يليّن الشرايين والروابط الاجتماعية بين السكان تعمل على الحماية من أمراض القلب، فإن الكراهية باعتبارها موقفاً يتسم بالحقد والازدراء تجاه الناس تمثل عامر خطر كبير للإصابة بالأمراض القلبية الوعائية، فقد كشفت إحدى الدراسات في جامعة “يوتاه” أجريت على أكثر من 150 زوجاً أن الأزواج الأكثر عدائية كانت لديهم مستويات مرتفعة من “تكلُّس الشريان التاجي” وهو على نحو أساسي تيبُّس في الشريان التاجي سببه تراكم اللويحات، أما الأزواج الأكثر لطفا ومحبة فقد تمتعوا بشرايين طبيعية. ومن فوائد اللطف العديدة على القلب أنه يقوم بإبطال تأثيرات الأحداث المسببة للإجهاد الذي يمكن أن يتسبب في أمراض القلب، كما أن الامتنان وقول كلمة (شكرا) يعد محصناً للقلب أيضاً ويساعد الأشخاص الذين يعانون من أمراض قلبية على تجاوز الأزمات. اللطف والشيخوخة من المعروف أن الشيخوخة حالة تصيب الإنسان بسبب التقدم الطبيعي في العمر، حيث تظهر علامات الشيخوخة من خلال تجاعيد في أعضاء الجسم ومفاصله، ولكن هل يمكن فعلاً محاربة مظاهر الشيخوخة؟ لقد أشار المؤلف في هذا المضمار إلى أن اللطف بإمكانه إبطاء تأثيرها عمليات الشيخوخة السبع الكبرى، وهي: ضمور العضلات، وانخفاض نشاط العصب الحائر، والالتهاب، والإجهاد التأكسدي، وأكسيد النتريك المستنفذ، وقصر “التيلومير”، والتشيُّخ المناعي. ونحن إذا نظرنا، على سبيل المثال لا الحصر، إلى الأفكار التي قدمها المؤلف بخصوص العملية الأولى من عمليات الشيخوخة السبع (ضمور العضلات) سنجد أن ممارسة عملية اللطف لها دور كبير في تجديد عضلاتنا المختلفة وبالتالي إبطاء شيخوختنا، فاللطف -كما ذكرنا سابقاً- يمنح الإنسان هرمون “الأوكسيتوسين” الذي يساعد خلايا القلب على خلق خلايا العضلات، كما يساعد في تحويل العضلات القديمة إلى عضلات شابة في أذرعنا وأرجلنا وفي قلبنا كذلك. ومن هنا يبدو أن اللطف مسألة أساسية وضرورية في حياة الإنسان، فاللطف يستطيع تضميد القلب المكسور، ويحارب الإجهاد الذي يعمل على تسريع الشيخوخة، ولهذا فقد ذهب المؤلف إلى أنه من المؤكد أن مجرد التعامل بلطف يعد فعلاً مضاداً للإجهاد، لأن اللطف يعمل ببساطة على إبطال آثار الإجهاد المؤذية لعضلاتنا المختلفة. أما إذا نظرنا إلى العملية الثانية من عمليات الشيخوخة السبع (انخفاض نشاط العصب الحائر)، فإننا سنجد أن نشاط العصب الحائر يقوم بدور أساسي في الجسم ويعتبر نشاطه هو الواقي من الشيخوخة، فإذا كان منخفضاً فإننا نفقد جزءاً من الوقاية من الشيخوخة، أما إذا كان في ازدياد فإن أجسامنا تحتفظ بمزيد من الحماية، وقد أشار المؤلف في هذا السياق إلى دراسات علمية أثبتت أن نشاط العصب الحائر يسير جنباً إلى جنب مع التعاطف واللطف ويتصل بمجموعة واسعة من سلوكيات التعاطف واللطف. وهكذا فإننا كل ما نظرنا أي واحدة من عمليات الشيخوخة السبع سنجد أن اللطف له دور عظيم في إبطاء الشيخوخة من خلال إبقاء عضلات الجسم والدماغ والقلب مستمرة في النمو والتجدّد من حين لآخر، ومن خلال هذه المعادلة ينجح اللطف في محاربة آثار عمليات الشيخوخة السبع: ضمور العضلات، وانخفاض نشاط العصب الحائر، والالتهاب، والإجهاد التأكسدي، وأكسيد النتريك المستنفذ، وقصر “التيلومير”، والتشيُّخ المناعي. اللطف والعلاقات من المعروف أن المحافظة على علاقات حسنة مع الناس أمر مرغوب لدى الإنسان، فالفطرة تحدو الإنسان إلى العمل على نسج العلاقات الحسنة مع الناس، ولكن في بعض الأحيان يجد الإنسان نفسه أمام بعض الزوابع التي بإمكانها أن تقتلع جذور تلك العلاقات الاجتماعية، وعندما يبدأ الإنسان التفكير في المحافظة على شجرة علاقاته الاجتماعية ثابتة لا بد أنه سيكتشف أن اللطف هو الذي ينقذ العلاقات دائماً من الذوبان والاندثار، فابتسامة خاطفة أمام شخص غاضب من تصرفاتك قد تحافظ على علاقات مجتمعية واسعة، والوقوع في شراك الغضب لمدة دقائق قد يهدم علاقات إنسانية، لذلك نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الغضب فقال: “لا تغضب، لا تغضب”. ومن هنا يتضح لنا أن اللطف في حقيقة الأمر يعد من أهم الأشياء التي تسقي أشجار العلاقات الاجتماعية فتستمر في النمو والازدهار لتستقوي على سوقها، وبدون اللطف يصعب استمرار العلاقات الاجتماعية، لأن الإنسان بطبيعته يحتاج إلى اللطف في كل مراحله العمرية، فالطفل يحتاج إلى اللطف من والديه، والشباب يحتاج إلى اللطف في سن المراهقة حتى يعبر إلى بر الأمام والرشد بسلام، والزوجة تحتاج إلى اللطف من زوجها، والزوج يحتاج إلى اللطف من زوجته، والأخت تحتاج إلى اللطف من أشقائها وشقيقاتها، والأخ يحتاج إلى اللطف من أخيه الأكبر. وهكذا فإننا عندما نمعن النظر في أهمية اللطف نجده يساهم في الحفاظ على العلاقات الاجتماعية ويعمل على توطيد أواصر الأخوة والصداقة، وقد ذهب الدكتور ديفيد إلى أبعد من ذلك حين قال إن اللطف لا يعمل على تقوية العلاقات الإنسانية وحسب، بل يعمل على تقوية العلاقات مع الحيوانات أيضاً، فالكلب مثلاً عندما يجد اللطف من الإنسان يصبح ودوداً مسالماً متعايشاً مع الناس في منازلهم. وفي سياق الحديث عن دور اللطف في تقوية العلاقات الإنسانية، لا يمكن أن ننسى أهمية التعبير عن الامتنان ودوره في إدراكنا للنعم في علاقاتنا الإنسانية على اختلافها، فنحن عندما نمارس الامتنان في حياتنا نكتشف العلاقة الوطيدة بينهم واللطف، حيث نجد أن اللطف يولد الامتنان، ويطلق لنا العنان لنعيش حياة أكثر سعادة، وقد اقترح المؤلف في هذا الباب مجموعة من التصرفات اللطيفة التي يمكن للإنسان أن يقوم بها خلال حياته، منها: أن تعرض على جارك المسن القيام بترتيب حديقته، وأن تقوم بتنظيم حفل لشخص يستحق بعض التقدير. اللطف كفيروس يتمثل الأثر الخامس في أن اللطف معدٍ بمعنى أنه يمتلك القدرة على الانتقال من أحد الأشخاص أو الكائنات إلى آخر، ويبدو لنا أن مقولة سكوت أدمز: “تذكر أنه لا يوجد ما يسمى تصرفاً لطيفاً بسيطاً، إن كل تصرف لطيف يخلق موجة لا نهاية منطقية لها” من المقولات التي ألهمت المؤلف المعلومة اللطيفة المتمثلة في أنه اللطف مُعدٍ كالفيروسات. والقول إن اللطف مُعدٍ يعني أن كل تصرف لطيف يقوم به الإنسان يفضي إلى تصرف لطيف آخر، ومن هنا فإن عدوى اللطف يمكن أن تحدث في كل مكان وزمان وميدان، ففي مجال الأسرة يمكن أن تنتقل عدوى اللطف من الوالدين إلى الأبناء يومياً، وفي مجال العمل يمكن أن تنتقل عدوى اللطف من المدير الذي يتسم به الرئيس إلى مرؤوسيه، وفي الجامعة يمكن أن تنتقل عدوى اللطف من الأستاذ إلى الطلاب، ومن المجتمع يمكن أن تنتقل عدوى اللطف إلى مجتمع آخر، ولا شك أن عدوى اللطف ليست من الأمور التي ينبغي الاحتراز منها، فاللطف أمر صحي كما رأينا.
إسلام أون لاين