منتدي عرب فور دون
(نسخة قابلة للطباعة من الموضوع)
https://forum.arab4down.com/index.php?page=topic&show=1&id=74868
أنقر هنا لمشاهدة الموضوع بهيئته الأصلية

شرح حديث : وصلُّوا كما رأيتموني أصلي.
Ahmed Attia 20-06-2022 12:03 مساء



شرح حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وصلُّوا كما رأيتموني أصلي)


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:

فهذا شرح موجز لحديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه، وهو من جوامع كلمه كما هو شأن سائر أحاديثه عليه الصلاة والسلام، وهو مشهور عند أهل العلم، وقد اهتموا به اهتمامًا بالغًا، وقد ذُكر في الصحيحين، وأورده البخاري رحمه الله تعالى في أحد عشر موضعًا من كتابه: مسندًا ومعلقًا، كاملًا ومختصرًا [1]، تحت تراجم متعددة، استلَّ فقهَها من الحديث، وأخرجه الحاكم من حديث أبي سعيد وقال: "هو أول حديث في فضل طلاب الحديث".



لفظ الحديث كما ورد عند البخاري رحمه الله تعالى في كتاب الآحاد، تحت ترجمة: "باب: ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان، والصلاة، والصوم، والفرائض، والأحكام":

حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبدالوهاب حدثنا أيوب عن أبي قلابة حدثنا مالك بن الحويرث قال: ((أتينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شَبَبَةٌ متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلةً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رفيقًا، فلما ظن أنَّا قد اشتهينا أهلنا - أو قد اشتقنا - سألنا عمن تركنا بعدنا فأخبرناه، قال: ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم وعلموهم، ومروهم - وذكر أشياء أحفظها أو لا أحفظها - وصلوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة، فليؤذِّنْ لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم)).



التعريف بالراوي:

هو (مالك بن الحويرث بن أشيم الليثي) من بني ليـث بن بكر بن عبدمناة بن كنانة، يُكنى أبا سليمان، ويقال فيه: مالك بن الحارث، وقال شعبة: مالك بن حويرثة، سكن البصرة، قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في شَبَبَةٍ من قومه، فعلمهم الصلاة، وأمرهم بتعليم قومهم إذا رجعوا إليهم، روى عنه أبو قلابة، ونصر ابن عاصم، وسوار الجرمي، وله أحاديث في الصلاة غير هذه، مات بالبصرة سنة أربع وسبعين.



فوائد مدارسة سيرة رواة الأحاديث من الصحابة رضوان الله عليهم:

♦ معرفة مناسبة الحديث - إن وجدت - كما هو شأن حديثنا هذا، وكما أن للآيات المنزلة من القرآن مناسبات، فكذلك لبعض الأحاديث مناسبات ظاهرة، ومعرفة المناسبة مما يعين على فهم الحديث فَهمًا صحيحًا، ومعرفة تناسب ألفاظه ومطابقتها للحال، كما سيتبين من حديثنا هذا إن شاء الله.



♦ حفظ الحديث بشكل أفضل، فأحيانًا تكون هناك مناسبة ظاهرة بين الراوي وحديثه؛ فكل إنسان حريص على ما ينفعه وعلى مصلحة نفسه؛ فمثلًا نجد أبا سعيد الخدري رضي الله عنه، وهو من الأنصار وهم أصحاب الزرع والنخل - يروي حديث أنصبة الزكاة: ((ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة))، بينما كثير من المهاجرين كانوا من التجار؛ فتجد حكيم بن حزام رضي الله عنه المهاجري - وهو من كبار أغنيائهم - يروي مثلًا حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا))، وعائشة رضي الله عنها تروي قوله صلى الله عليه وسلم: ((أنزلوا الناس منازلهم))، ومَن التي كانت تشهد أحداث المسجد النبوي، وقدوم وفود القبائل على النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهكذا.



♦ معايشة أحداث السيرة العطرة وأنفاسه الطاهرة صلوات الله وسلامه عليه؛ فأفضل مصادر السيرة النبوية بعد كتاب الله جل جلاله هي الحديث النبوي، ومعرفة الصحابة وأحوالهم مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، تليها كتب السيرة.



♦ تعظيم وتوقير الأحاديث كأنك تُعايش الحديث نفسه؛ مقتديًا بفعل رواته، ومطالعة كيفية عمل الصحابة بما رَوَوا، والمناسبات التي ذكروا فيها ما تعلموه من النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان منهج حياتهم؛ فتتعلم صدقهم، وصبرهم، وعلمهم، وجهادهم رضوان الله عليهم أجمعين، وكيف كانت حياتهم بعده صلى الله عليه وسلم؛ فتتعلم سيرة الجيل الأول، وهم القدوة بعده عليه الصلاة والسلام.



♦ وخصوصًا العمل بالحديث ونشره، وراوي حديثنا الصحابي مالك بن الحويرث رضي الله عنه قد بث ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم في الناس؛ فعن أبي قلابة عبدالله بن زيد الجرمي البصري قال: "جاءنا مالك بن الحويرث في مسجدنا هذا، فقال: إني لأصلي بكم، وما أريد الصلاة، أصلي كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي".



فبمطالعة تراجم الصحابة رضوان الله عليهم تتعلم فقه، وفهم، وكيفية العمل بالحديث والله الميسر الموفق.



شرح الحديث:

أتينا إلى النبي صلى الله عليه وسلم:

وفي رواية: ((قدمنا))، وكانت وفادة بني الليث رهط مالك رضي الله عنهم في سنة الوفود سنة تسع، قبل غزوة تبوك التي كانت في رجب من تلك السنة، وفي الحرص على معرفة زمن الحديث فوائد جمة: من تصوره، وفقهه، ومعرفة مكانه في السيرة، ومعايشة الأحداث في زمنه عليه الصلاة والسلام، والناسخ والمنسوخ، وغيرها.



♦ وفيه فضل الرحلة في طلب العلم، ولطالما كانت هذه سُنَّةَ المحدِّثين في رحلتهم في أقطار الأرض؛ طلبًا للعلم، وفيه الحرص على طلب العلو؛ لأن مالكًا وأصحابه كانوا شبيبة فرحلوا؛ لطلب لُقيا النبي عليه الصلاة والسلام والسماع منه، ففيه فضل الرحلة للتلقي من كبار أهل العلم، ويستحسن بعضُ أهل العلم ألَّا يرحل الطالب عن بلده حتى يأخذ عن أشياخ بلده؛ فقد أشار الخطيب أو غيره إلى أنه ينبغي للطالب أن يأخذ عن أشياخ بلده، ثم يرحل طلبًا للقي أو للتزود [2].



ونحن شببة:

♦ شباب الشيء: أوله، وهو ما دون سن الكهولة.



♦ قال ابن حجر رحمه الله: "وفي رواية وهيب في الصلاة: ((أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من قومي))، والنفر: عدد لا واحد له من لفظه، وهو من ثلاثة إلى عشرة، ووقع في رواية في الصلاة: ((أنا وصاحب لي))، وجمع القرطبي باحتمال تعدد الوفادة، وهو ضعيف؛ لأن مخرج الحديثين واحد، والأصل عدم التعدد، والأولى في الجمع أنهم حين أُذِن لهم في السفر كانوا جميعًا، فلعل مالكًا ورفيقه عادا إلى توديعه، فأعاد عليهما بعض ما أوصاهم به تأكيدًا، وأفاد ذلك زيادة بيان أقل ما تنعقد به الجماعة"[3].



♦ وتأمل فصاحة العرب وبداهة سليقتهم في ذلك، من حيث اختيار صيغة الجمع [4]؛ حيث نستشف منها التساوي - والله أعلم - من حيث توالي ثلاث حركات للفتح متتالية [5]؛ حيث حذف حرف المد في صيغة الجمع الأخرى "شباب"، والمد فيه طول، والطول فيه بُعد، وفصل بين حرفيه السابق واللاحق [6] [7]، فكانت هذه الصيغة من جموع التكسير خير معين لإدراك الصفة التي تليها، فما أجملها من لغة وما أعظمه من لسان!



متقاربون:

قيل: في السن، وقيل: في العلم والقراءة؛ قال ابن حجر رحمه الله تعالى: "قوله: ((متقاربون))؛ أي: في السن، بل في أعم منه؛ فقد وقع عند أبي داود من طريق مسلمة بن محمد عن خالد الحذاء: ((وكنا يومئذ متقاربين في العلم))، ولمسلم: (( كنا متقاربين في القراءة))، ومن هذه الزيادة يؤخذ الجواب عن كونه قدَّم الأسنَّ، فليس المراد تقديمه على الأقرأ، بل في حال الاستواء في القراءة، ولم يستحضر الكرماني هذه الزيادة فقال: يؤخذ استواؤهم في القراءة من القصة؛ لأنهم أسلموا وهاجروا معًا، وصحبوا ولازموا عشرين ليلة فاستووا في الأخذ، وتعقب بأن ذلك لا يستلزم الاستواء في العلم؛ للتفاوت في الفهم؛ إذ لا تنصيص على الاستواء"[8]، مع أنه رحمه الله تعالى ذكر في باب: (إذا استووا في القراءة فليؤمهم أكبرهم):

"ليس فيه [9] التصريح باستواء المخاطبين في القراءة، وأجاب الزين بن المنير وغيره بما حاصله: أن تساوي هجرتهم وإقامتهم وغرضهم بها، مع ما في الشباب غالبًا من الفَهم، ثم توجه الخطاب إليهم بأن يعلموا مَن وراءهم من غير تخصيص بعضهم دون بعض - دالٌّ على استوائهم في القراءة والتفقه في الدين، قلتُ: وقد وقع التصريح بذلك فيما رواه أبو داود من طريق مسلمة بن محمد عن خالد الحذاء عن أبي قلابة في هذا الحديث قال: وكنا يومئذ متقاربين في العلم"[10].



فوافق قول الزين بن المنير قول الكرماني رحمهما الله تعالى، ودل الحديث على استوائهم في العلم والفهم والسن والله أعلم.



فأقمنا عنده عشرين يومًا وليلة:

♦ ((فأقمنا عنده)): فيه أصل سكن طلبة العلم بجوار الشيخ أو العالم؛ فمالك وأصحابه رضي الله تعالى عنهم أقاموا بجوار النبي صلى الله عليه وسلم من باب تسهيل الأخذ عنه [11].



♦ ((عشرين يومًا وليلة)): فيه أن العلم يحتاج إلى مثابرة وإلى مجاهدة للنفس؛ قال يحيى بن أبي كثير: "لا يُستطاع العلم براحة الجسد، لا بد من مجاهدة ومن ترك الترفه والتنعم الزائد"[12].



♦ يؤخذ منه عمل دورات شرعية مكثفة في العلم الشرعي [13]، وتراعى المدة التي يستطيعها المدعوُّون، وقد يتخرج دعاة صدق من مجلس واحد؛ كما في دعاة الجن الذين قص الله لنا خبرهم في سورة الأحقاف، فقد قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ﴾ [الأحقاف: 29].



♦ التفرغ لطلب العلم قدر الاستطاعة؛ فإنه أصفى للذهن، وأقطع للعلائق والمشاغل؛ فيجب على المسلم أن يكون عنده قدر من التفرغ لطلب العلم، بما يناسب حياته ومسؤولياته.



♦ إن أعظم الجهاد: المجاهدة في طلب العلم، وإنما كان القتال لأجل هذه الغاية؛ وهي: إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وليس لقتلهم أو الاستحواذ على دنياهم؛ ولذلك من فقه البخاري رحمه الله تعالى أن ساق طرفًا من الحديث في كتاب الجهاد والسير تحت باب "سفر الاثنين".



♦ وفيه عظمة الحِملِ الذي تحمله النبي صلى الله عليه وسلم في تعليم الأمة، ونشر دين الله عز وجل؛ حيث كانت تفد إليه الوفود من كل القبائل في أواخر حياته، فكان يعتني بكل احتياجاتهم: المادية، والمعنوية مع ما هو عليه من حسن الخلق والبشاشة، فما رُئي إلا متبسمًا، بل كان من حرصه على حسن استقبالهم أن كان يتجمل للوفود، وهذا يدل على الحفاوة البالغة بهم، فكيف بما هو أعم وأشمل من ذلك من أمور ضيافتهم، وقضاء حوائجهم، وحل مشكلاتهم، وتربيتهم وتعليمهم، كلٌّ بما يناسبه ويشاكله، وفي هذا من الجهد ما فيه، حتى إذا كان الليل، يكون قد استنفذ النهار طاقته وأنهك قواه، فصلى قيام الليل قاعدًا في أواخر حياته عليه الصلاة والسلام؛ ففي صحيح مسلم عن عبدالله بن شقيق قال: "قلتُ لعائشة: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وهو قاعد؟ قالت: نعم، بعد ما حطمه الناس".



وفي صحيح مسلم أيضًا عن حفصة رضي الله عنها أنها قالت: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في سبحته قاعدًا، حتى كان قبل وفاته بعام، فكان يصلي في سبحته قاعدًا".



وهذا من تحمله صلوات الله وسلامه عليه من أعباء الدعوة وثقل أحمال الناس، حتى أثر في جسمه، وفي هذا قدوة لكل داعية؛ من الصبر على مخالطة الناس، ورعاية مصالحهم، والقيام باحتياجاتهم؛ حتى يكونوا أرضًا خصبة ليزرع فيهم دين الله عز وجل، حتى إن الوافد لينصرف ورسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليه من كل شيء، والمحبة أساس الطاعة والاستجابة.



وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رفيقًا:

وفي لفظ: ((رقيقًا)) بقافين، وفي لفظ بزيادة ((رحيمًا)) وهي الرواية التي أوردها البخاري رحمه الله تعالى، تحت ترجمة: "باب: رحمة الناس والبهائم" في كتاب الأدب، بزيادة وتأخير.



وفيه من الفوائد:

♦ فيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الرحمة بالمدعوين.



♦ سر نجاح أي دعوة هو الرحمة؛ لأنها تلين القلب فيستجيب.



♦ قد يحتاج الرحمة من تظنه في غنًى عنها؛ فهؤلاء الشباب كانوا في أَوْجِ قوتهم وفُتوتهم، ومع ذلك كانوا أحوج ما يكون إلى رحمته عليه الصلاة والسلام.



♦ الرحمة والإحسان للغريب أكثر، خصوصًا إذا كان طالب علم.



فلما ظن أنا قد اشتهينا أهلنا، أو قد اشتقنا:

قال ابن حجر رحمه الله تعالى: "((فظن أنا اشتقنا إلى أهلنا، وسألنا عمن تركنا بعدنا فأخبرناه، فقال: ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم))، ويمكن الجمع بينهما بأن يكون عرض ذلك عليهم على طريق الإيناس بقوله: لو رجعتم؛ إذ لو بدأهم بالأمر بالرجوع، لأمكن أن يكون فيه تنفير، فيحتمل أن يكونوا أجابوه بنعم، فأمرهم حينئذ بقوله: ارجعوا، واقتصار الصحابي على ذكر سبب الأمر برجوعهم بأنه الشوق إلى أهليهم دون قصد التعليم، هو لِما قام عنده من القرينة الدالة على ذلك، ويمكن أن يكون عرف ذلك بتصريح القول منه صلى الله عليه وسلم، وإن كان سبب تعليمهم قومهم أشرف في حقهم، لكنه أخبر بالواقع ولم يتزين بما ليس فيهم، ولما كانت نيتهم صادقة، صادف شوقهم إلى أهلهم الحظ الكامل في الدين وهو أهلية التعليم؛ كما قال الإمام أحمد في الحرص على طلب الحديث: حظٌّ وافق حقًّا"، والمراد بأهل كل منهم: زوجته أو أعم من ذلك.



♦ فيه عظيم فطنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقوة فِراسته [14].



♦ وفيه أيضًا أن على المعلم أن يحرص على تفقد طلابه، ومراقبة مشاعرهم، والبحث من طرف خفي، فقد يسد خَلَّةَ محتاج، أو يحقق رغبة مستحي بأمر يسير [15].



سألنا عمن تركنا بعدنا، فأخبرناه:

♦ فيه أن عناية المعلم لا تكن بالطالب فحسب، بل بأهله أيضًا، بالسؤال عنهم والتعرف إليهم [16]؛ فبذلك يعرف واقع الطالب، وظروف عيشه، ونطاق قدرات دعوته، فليس الذي يأتي من ضواحي البلد كمن يأتي من بلاد بعيدة قد انتشر فيها الجهل، فلا بد من معرفة واقع الطلاب؛ ليتم التوجيه والإعانة على أساسه؛ لذلك قال بعده: ((قال: ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم)):

قال ابن حجر رحمه الله تعالى: "إنما أذن لهم في الرجوع؛ لأن الهجرة كانت قد انقطعت بفتح مكة، فكانت الإقامة بالمدينة باختيار الوافد، فكان منهم من يسكنها، ومنهم من يرجع بعد أن يتعلم ما يحتاج إليه".



وقال: "وعطف الأمر على التعليم؛ لكونه أخص منه، أو هو استئناف كأن سائلًا قال: ماذا نعلمهم؟ فقال: مروهم بالطاعات وكذا وكذا، ووقع في رواية حماد بن زيد عن أيوب كما تقدم في أبواب الإمامة: ((مروهم فليصلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا))، فعُرف بذلك المأمور المبهم في رواية الباب، ولم أر في شيء من الطرق بيان الأوقات في حديث مالك بن الحويرث، فكأنه ترك ذلك لشهرتها عندهم"[17].



فوائد:

♦ لم يحرص النبي صلى الله عليه وسلم على تربية الأفراد تربية ذاتية فحسب، بل تجاوز ذلك إلى تربيتهم تربية متعدية؛ يعني: إعدادهم ليكونوا دعاة لغيرهم؛ حيث قرن لهم في التوصية حين ذهابهم بين العمل لأنفسهم والدعوة لغيرهم، وخص الأقربين من أهلهم بذلك التعليم [18]، وقد ذكره البخاري رحمه الله تعالى تحت باب: "وَصاة النبي صلى الله عليه وسلم وفود العرب أن يبلغوا من وراءهم".



♦ وقوله: ((ارجعوا إلى أهليكم)): فيه حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إعطاء كل ذي حق حقه [19]، ومن هؤلاء أهل طالب العلم، وحقوقهم تختلف، وكما أن من حقهم تعليمهم، وقد لا يتم ذلك إلا بالرحلة، فكذلك من حقهم المكث عندهم، وقد فصَّل أهل العلم في ذلك؛ سأل أحدهم الإمام أحمد قال: "يا أبا عبدالله، الرجل يرحل لطلب العلم ويمنعه والداه، ما يصنع؟" قال: "أما ما لا بد له منه فليرحل، وما سوى ذلك فالوالدان، فليلزم الوالدين"، وقد روى البخاري رحمه الله تعالى عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: ((جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد، فقال: أحيٌّ والداك، قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد)).



♦ وقوله: ((فأقيموا فيهم)) دل على أن التعليم والتربية تحتاج للوقت والصبر؛ فينبغي التفرغ لهم.



♦ وينبغي للإنسان ألا يفارق أهله إلا عند الحاجة، ومتى انتهت حاجته رجع إليهم.



♦ الإسلام دين واقعي لا يطالب بالمثالية الزائدة؛ فإن بقاءهم عند النبي عليه الصلاة والسلام أفضل وأشرف، ولكن الإسلام دين الحياة الواقعية، فلا إفراط ولا تفريط، فهم يحتاجون لأهليهم، وأهلوهم يحتاجون إليهم، فكان الأقوم أمرهم بالرجوع.



وذكر أشياء أحفظها أو لا أحفظها:

قال ابن حجر رحمه الله تعالى: "قائل هذا هو أبو قلابة راوي الخبر، ووقع في رواية أخرى: أو لا أحفظها، وهو للتنويع لا للشك، قوله: ((وصلوا كما رأيتموني أصلي))؛ أي: ومن جملة الأشياء التي يحفظها أبو قلابة عن مالك قوله صلى الله عليه وسلم هذا".



♦ وقوله: ((وذكر أشياء أحفظها أو لا أحفظها)) من أمانة التابعي في النقل وصدقه، أنه ذكر أشياء ونسي أشياء، لو لم يقل: لا أحفظها، لم يعلم أحد، لكن من أمانته في النقل أنه اعترف بأنه حفظ أشياء، وغابت عنه أشياء، ومن لازم الخصال المحمودة بل الواجبة في طالب العلم أن يكون أمينًا، فيقول ما له به علم ويتورع، بل يكف عما ليس له به علم [20].



♦ وفيه أيضًا تواضعه والاعتراف ببشريته.



♦ وفيه علو أخلاق التابعين مقتدين بذلك بالصحابة رضوان الله عليهم، وقبل ذلك بإمامهم إمام المتقين صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.



وصلوا كما رأيتموني أصلي:

قوله: ((وصلوا كما رأيتموني أصلي)) فيه:

♦ أصل عظيم، ولعله أعظم فوائد الحديث وهو أهمية الاتباع، وقد جاء الأمر به في القرآن؛ قال الله تعالى: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7]، وقوله: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ [الأحزاب: 21]؛ قال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: "وهذا شامل لأصول الدين وفروعه، ظاهره وباطنه، وأن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم يتعين على العباد الأخذ به واتباعه، ولا تحل مخالفته، وأن نص الرسول صلى الله عليه وسلم على حكم الشيء كنص الله تعالى، لا رخصة لأحد ولا عذر له في تركه، ولا يجوز تقديم قول أحد على قوله صلى الله عليه وسلم"، ولن يستطيع مسلم الصلاة ما لم يتبع في ذلك سنته عليه الصلاة والسلام، وإن كان ورد الأصل في القرآن، وفيه هذا أشد رد على منكري السنة، وطعن لهم في خواصرهم.



♦ واتباع سنته يقتضي تعلمها، وبذلك اشتمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) على الأصلين العظيمين اللذين لا بد منهما لسلوك الصراط المستقيم؛ وهما: معرفة الحق، والعمل به، وبصيغة أخرى: تعلم العلم النافع، والعمل به، والعلم النافع وقَرْنُه بالعمل هو الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه، وهو الصراط المستقيم، الذي في آخره الجنة نسأل الله أن نكون من أهلها.



♦ تعليم العلم بالقول والعمل، فالمعلم قدوة في قوله وعمله، علمهم أشياء بقوله، وأمرهم أن يتعلموا من فعله: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)).



♦ والقدوة الفعلية أبلغ [21]، وراوي حديثنا الصحابي مالك بن الحويرث رضي الله عنه قد طبق ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم في الناس؛ فعن أبي قلابة عبدالله بن زيد الجرمي البصري قال: "جاءنا مالك بن الحويرث في مسجدنا هذا، فقال: إني لأصلي بكم، وما أريد الصلاة، أصلي كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي".



♦ طالب العلم كالغيث [22] مبارك، أينما وقع نفع، وقد كان جيل الصحابة رضوان الله عليهم خير البشر بعد الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.



♦ وفيه أهمية الصلاة فهي أهم أركان الإسلام بعد الشهادتين، فكما كانت الصلاة وفقهها آخر ما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم مالك بن الحويرث وصاحبه، فكذلك هي آخر ما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم أمته قبل وفاته، وعندما جاءه رجل وقال: ((عظني وأوجز، بدأ بالصلاة فقال عليه الصلاة والسلام: إذا قمت في صلاتك، فصلِّ صلاة مودع))، وهي مفتاح صلاح الأعمال أو فسادها؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضته شيء، قال الرب عز وجل: انظروا، هل لعبدي من تطوع، فيكمل بها ما انتقص من الفريضة؟ ثم يكون سائر عمله على ذلك))؛ صححه الألباني، في "صحيح سنن الترمذي".



فينبغي الحرص على تعلمها وتعليمها، ثم تفقدها بعد ذلك في النفس والأهل والأصحاب والجيران، فقد تطرأ أمور؛ مثل: مرض، أو عجز، أو سفر، أو حتى طول أمد فينسى ويغفل، فيحتاج إلى التعليم أو التذكير، ولا ينبغي الملل من النصيحة والتكرار.



فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم:

قوله: ((حضرت الصلاة))؛ أي: دخل وقتها، وفي هذا الأسلوب البليغ تعظيم لشأنها.



♦ وفيه أنه لا يشترط في الأذان غير الإيمان؛ لقوله: ((أحدكم)).



♦ وفيه عظيم نفع العلم مع صاحبه في سفره وحضره [23]، فكنزه معه في الحل والترحال، في الليل والنهار، أما الجاهل ففي ظلام.



وليؤمكم أكبركم:

من تدبُّر حديث مالك رضي الله عنه، يتبيَّن أن النبي خاطبهم بذلك لكونهم في حالة تساووا بها في السن والعلم والقراءة؛ فقد مكثوا جميعًا نفس المدة عند النبي صلى الله عليهم وسلم، وكانوا ((شببة متقاربون)) كما ذكر مالك رضي الله عنه في أول الحديث، فقد خاطبهم النبي صلى الله عليه وسلم بما يناسب حالهم، من اللجوء لفرق السن ولو كان طفيفًا، وجاءت أحاديث أخر صريحة في ذلك؛ ومن ذلك ما رواه مسلم رحمه الله تعالى من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله وأقدمهم قراءة، فإن كانت قراءتهم سواءً فليؤمهم أقدمهم هجرةً، فإن كانوا في الهجرة سواءً فليؤمهم أكبرهم سنًّا...))، وخلاصة ما دلت عليه هذه الأحاديث أن الأحق بالإمامة: هو الأقرأ لكتاب الله العالم بفقه صلاته، فإن استووا في القراءة فأعلمهم بالسنة، فإن استووا فالأقدم هجرة، فإن استووا أو لم يكن هناك هجرة فالأكبر سنًّا، كما دل عليه حديث مالك بن الحويرث: ((وليؤمكم أكبركم))، فلما تساووا في القراءة والعلم والهجرة، أمرهم بتقديم الأكبر سنًّا، فإن استووا في ذلك فالأتقى؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13]، فإن استووا في الكل يقرع بينهم إن تشاحوا [24].



هذا ما تيسر جمعه ونقله من أقوال العلماء في شرح الحديث مع ما تيسر من إضافات نسأل الله القبول.



سبحانك اللهم وبحمدك

أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك


[1] "حديث مالك بن الحويرث - دراسة دعوية -" أ.د. سليمان بن قاسم بن محمد العيد، على شبكة الألوكة.

[2] موقع جامع شيخ الإسلام ابن تيمية: (شرح الأربعون في المنهج).

[3] فتح الباري.

[4] وهي صيغة (فَعَلَة) من جموع الكثرة.

[5] وكما أن حروف المباني معبرة عن المعاني، فكذلك حركاتها، قال أبو الفتح بن جني رحمه الله في (المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها)، عند قوله تعالى: ﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ﴾ [الإسراء: 24]: "الذِّلُّ في الدابة: ضد الصعوبة، والذُّلُّ للإنسان، وهو ضد العز، وكأنهم اختاروا للفصل بينهما الضمة للإنسان والكسرة للدابة؛ لأن ما يلحق الإنسان أكبر قدرًا مما يلحق الدابة، واختاروا الضمة لقوتها للإنسان، والكسرة لضعفها للدابة، ولا تستنكر مثل هذا ولا تنبُ عنه؛ فإنه من عرف أنس، ومن جهل استوحش، وقد مر من هذا ما لا يحصى كثرة.

من ذلك قولهم: حلا الشيء في فمي يحلو، وحلي بعيني، فاختاروا البناء للفعل على (فَعَل) فيما كان لحاسة الذوق؛ لتظهر فيه الواو، وعلى (فَعِل) في حَلِي يحلَى؛ لتظهر الياء والألف، وهما خفيفتان ضعيفتان إلى الواو؛ لأن حصة الناظر أضعف من حس الذوق بالفم، وقالوا أيضًا: جُمامُ المكَّوك دقيقًا، وجِمام القدح ماء؛ وذلك لأن الماء لا يصح أن يعلو على رأس القدح، كما يعلو الدقيق ونحوه على رأس المكوك؛ فجعلوا الضمة لقوتها فيما يكثر حجمه، والكسرة لضعفها فيما يقل بل يعدم ارتفاعه".

[6] ومستند ذلك التذوق، والله تعالى أعلم.

[7] وقد ورد في كتاب الله عز وجل مثل هذه الصيغة في وصف الملائكة: "بررة"، واختصت بهم، لكن في ستة مواضع يوصف صالحو البشر بالأبرار؛ لأن البر متفاوت في عالم البشر والله تعالى أعلم.

[8] فتح الباري.

[9] أي: في حديث مالك رضي الله عنه.

[10] فتح الباري.

[11] موقع حلقات شيخ الإسلام ابن تيمية: (شرح الأربعون في المنهج والتربية).

[12] المصدر السابق.

[13] "حديث مالك بن الحويرث - دراسة دعوية -" أ.د. سليمان بن قاسم بن محمد العيد، على شبكة الألوكة.

[14] موقع حلقات شيخ الإسلام ابن تيمية: (الأربعون في المنهج والتربية).

[15] المصدر السابق.

[16] المصدر السابق.

[17] فتح الباري.

[18] "حديث مالك بن الحويرث - دراسة دعوية -" أ.د. سليمان بن قاسم بن محمد العيد، على شبكة الألوكة.

[19] موقع حلقات جامع شيخ الإسلام ابن تيمية: (الأربعون في المنهج والتربية).

[20] المصدر السابق.

[21] موقع حلقات شيخ الإسلام ابن تيمية: (الأربعون في المنهج والتربية).

[22] المصدر السابق.

[23] المصدر السابق.

[24] موقع الإسلام سؤال وجواب: (الأحق بالإمامة).


الالوكة

........................



منتدي عرب فور دون

Powered by PBBoard ©Version 3.0.3