قراءة في كتاب البيان لمعنى استيئاس الرسل (ص)
المؤلف علي بن محمد بن سعيد الشهراني وهو يدور حول تفسير الآية التى يسمونها يأس الرسل(ص)وفى سبب تأليف البحث قال :
"وقد استوقفني في هذا الكتاب العظيم آية كريمة، ربما أشكلت على بعض الناس، هي قول الله عز وجل: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ}
والحديث عن معنى هذه الآية وتفسيرها يحتاج إلى تروٍّ وأناة، وفهم لكلام العلماء، خصوصاً وقد حصل الخلاف بين المفسرين في تفسيرها، بين من يرى أن استيئاس الرسل (ص) كان من إيمان قومهم، ومن يرى أن استيئاسهم كان من أن يعذب قومهم، ثم اختلافهم تبعاً لذلك في المراد من قول الله عز وجل: "وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا " على أقوال، سيأتي ذكرها - إن شاء الله تعالى-."
وبين أن الآية متعلقة بها مسائل عقيدية فقال :
"وليس المراد في هذا البحث سرد أقوال المفسرين في هذه الآية، أو الاستدراك عليهم، معاذ الله، ولكني رأيت الحاجة قائمة لبيان بعض المسائل العقدية المتعلقة بهذه الآية، ومن ذلك الرد على ما قد يتوهمه بعض الناس من مخالفتها لعصمة الرسل (ص)، بل إن بعضهم قد يجعلها حجة بجوزون بها المعصية على الأنبياء بمختلف صورها - والعياذ بالله -، وما قد يراه آخرون من أن بعض ما ورد من أهل العلم في تفسيرها يتضمن وصف الرسل (ص) لسوء الظن بربهم، وهذا يقدح في آحاد المؤمنين، فضلاً عن الأنبياء والمرسلين.
ولا يخفى ما يستحقه بحث هذه المسائل المتعلقة بالركن الرابع من أركان الإيمان، والأصل العظيم من أصول الدين "الإيمان بالرسل (ص)" من اهتمام وجهد، خصوصاً وأني لم أجد أحداً - حسب علمي بعد البحث والاطلاع - خصَّ هذا الموضوع بكتابة مستقلة، وإنما هي إشارات في بطون الكتب.
لهذا وغيره كانت الرغبة قوية في كتابة هذا البحث الموجز، الذي أرجو أن أسهم فيه بجهد المقل في الإشارة إلى أقوال أهل العلم المفسِّرة لمعنى استيئاس الرسل الوارد في هذه الآية، والقراءات المذكورة فيها، وبيان أنها مع اختلاف لفظها ومعناها، لا تتصادم ولا تتناقض، واختلافها - والله أعلم - هو من باب اختلاف التنوع، لا من باب اختلاف القضاء، مع التركيز على ما يتعلق بالعقيدة، وخصوصاً في باب عصمة الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، والتأكيد على أن ما ورد في هذه الآية لا ينقي ما تقرر من عصمتهم، أو ينسب إليهم مالا يليق بهم، ووسمته بـ: "البيان لمعنى استيئاس الرسل (ص)" "
وفى مستهل البحث تحدث عن المعنى اللغوى للكلمة فقال :
"معنى الاستيئاس
قال ابن فارس: ("يأس" الياء والهمزة والسين، كلمتان: إحداهما اليأس: قطع الرجاء، ويقال إنه ليست ياء في صدر كلمة بعدها همزة إلا هذه، يقال منه: يئس، ييأس، وييئس، على يفعَل، ويفعِل.
والكلمة الأخرى: ألم تيأس، أي ألم تعلم، وقالوا في قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا} ، أي: أفلم يعلم، وأنشدوا:
أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم .
واليأس: القنوط، والمصدر: اليأس، والياسة، واليأَس، وقد استيأس، وأيأسته، وإنه ليائس ويئس ويؤوس ويَؤُس، والجمع يؤوس وآيسه فلان من كذا فاستيأس منه، بمعنى أيس، واتأس أيضاً، وهو افتعل، فأدغم مثل اتَّعد .
قال الراغب الأصفهاني: (اليأس: انتفاء الطمع، يقال: يئس واستيأس، مثل عجب واستعجب، وسخر واستسخر، قال تعالى: {فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} ، وقال: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ} ، وقال: {قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآَخِرَةِ} ، وقال: {إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} ، وقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا} ، قيل معناه: أفلم يعلموا، ولم يرد في كلامهم أن اليأس موضوع للعلم، وإنما قصد أن يأس الذين آمنوا من ذلك يقتضي أن يحصل بعد العلم بانتفاء ذلك)
ويقال: يئست المرأة، إذا عقمت، فهي يائس، كما يقال حائض وطامث، فإن لم يذكر الموصوف قلت يائسة
وهناك من اللغويين من يرى أن "يأس" لغة في "يئست"، ويجعل مصدرها واحداً قال ابن السكيت: (أيست منه آيس يأسا، لغة في يئست منه أيأس يأسا، ومصدرهما واحد، وآيسني منه فلان، مثل أيأسني، وكذلك التأييس)
وبعضهم يقول هو مقلوب من يئس، وليس بلغة فيه
قال ابن فارس: ("أيس" الهمزة والياء والسين ليس أصلاً يقاس عليه، ولم يأت فيه إلا كلمتان ما أحسبهما من كلام العرب، وقد ذكرناهما لذكر الخليل إياهما، قال الخليل: أيس كلمة قد أميتت، غير أن العرب تقول: ائت به من حيث أيس وليس، لم يستعمل أيس إلا في هذه فقط، وإنما معناها كمعنى حيث هو في حال الكينونة والوجد والجدة، وقال: إن ليس معناها لا أيس، أي لا وجد.
والكلمة الأخرى قول الخليل إن التأييس الاستقلال، يقال ما أيسنا فلانا، أي ما استقللنا منه خيرا ... ) .
وقرأ ابن كثير: "استايسوا"، "ولاتايسوا"، "إنه لا يايس"، "أفلم يايس"، بألف من غير همز على القلب، قدمت الهمزة وأخرت الياء، ثم قلبت الهمزة ألفا؛ لأنها ساكنة قبلها فتحة، والأصل قراءة الجماعة .
والاستيئاس استفعال من اليأس، والاستفعال يقع على وجوه، منها: أن يكون لطلب الفعل من الغير، فالاستخراج والاستفهام والاستعلام يكون في الأفعال المتعدية، يقال: استخرجت المال من غيري، ولا يصلح هذا أن يكون معنى الاستيئاس، فإن أحداً لا يطلب اليأس ويستدعيه، ولأن استيأس فعل لازم لا متعدي.
ويكون أيضاً للاستفعال لصيرورة المستفعل على صفة غيره، وهذا في الأفعال اللازمة، كقولهم: استحجر الطين، أي صار كالحجر وأخيراً نقل عن بعض أهل اللغة أن الاستيئاس هو الاقتراب من اليأس بظهور آثاره لمكان هيئة الاستفعال، وهو مما يُعد يأساً عرفاً، وليس باليأس القاطع حقيقة ."
وتحدث عن تفسير اليأس في الآية فقال :
"هذا عن معنى اليأس والاستيئاس في اللغة، فما معنى استيأس الرسل (ص) الوارد في الآية؟ وما المراد بقوله عز وجل بعد ذكر هذا الاستيئاس "وظنُّوا أنهم قد كذبوا"؟ وممن وقع هذا الظن؟ كل هذا سيتبين لنا في المبحث التالي - بإذن الله-. أقوال أهل العلم في المراد باستيئاس الرسل - عليهم الصلاة والسلام-
قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} .
اختلف المفسرون فيما تعلقت به الغاية من قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ} بعد اتفاقهم على أنه محذوف، فقيل: التقدير وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً فدعوا قومهم فكذبوهم، وصبروا، وطال دعاؤهم وتكذيب قومهم، حتى إذا استيأس الرسل ... الخ، وقال بعضهم: التقدير وما أرسلنا من قبل إلا رجالاً فتراخى النصر عنهم حتى إذا استيأس الرسل ... الخ، وقبل: التقدير وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً ثم لم نعاقب أممهم حتى إذا استيأس الرسل ... الخ، وقبل إن التقدير: لا يغرنهم تماديهم فيما هم فيه من الدعة والرخاء، فإن من قبلهم قد أمهلوا حتى يئس الرسل من النصر عليهم في الدنيا، أو من إيمانهم لانهماكهم في الكفر، وتماديهم في الطغيان من غير وازع .
وقد أطال المفسرون وأهل العلم في الحديث حول هذه الآية، وتكلموا في تفسيرها بما فيه مقنع وغناء عن أن يوضح بغير لفظهم."
قطعا الحديث ليس عن تراخى النصر في الآية وإنما المعنى قنوط الرسل(ص) ممن إيمان أقوامهم على حد قوله تعالى :
" إنه لم يؤمن من قومك إلا من قد آمن وما آمن معه إلا قليل "
وتحدث عن اختلاف القراءات في الآية فقال :
"وقبل ذكر هذه الأقوال لابد من الإشارة إلى أنه قد تنوعت القراءات في قوله تعالى: "وظنوا أنهم قد كذبوا":
فقرأ أبو جعفر وعاصم وحمزة والكسائي وخلف: "وظنوا أنهم قد كُذِبوا"، بضم الكاف وتخفيف الذال مع كسرها، بالبناء للمفعول، وهذه أيضاً قراءة ابن عباس، وابن مسعود - رضي الله عنهم-، والأعمش، وغيرهم. قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب: "قد كُذِّبوا"، بضم الكاف وتشديد الذال، ووافقهم ابن محيصن واليزيدي والحسن، وغيرهم .
وهاتان القراءتان ثابتتان، وهما من القراءات السبع وهناك قراءة شاذة تروى عن مجاهد والضحاك "قد كَذَبوا"، بفتح الكاف والذال مع تخفيفها.
قال الإمام الطبري: (وروي عن مجاهد في ذلك قول هو خلاف جميع ما ذكرنا من أقوال الماضين، الذين سمينا أسماؤهم، وذكرنا أقوالهم، وتأويل خلاف تأويلهم، وقراءة غير قراءة جميعهم، وهو أنه فيما ذكر عنه كان يقرأ: "وظنوا أنهم قد كَذَبوا" بفتح الكاف والذال وتخفيف الذال، ... وهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها؛ لإجماع الحجة من قرأة الأمصار على خلافها ... ) .
أقوال أهل العلم بناءً على القراءتين:
القراءة بالتشديد "كذِّبوا" فيها وجهان من التفسير:
الأول: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان من كذبهم من قومهم، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم؛ لما لحقهم من البلاء والامتحان، وتأخر النصر.
وبهذا قالت عائشة - رضي الله عنها-، ففي الصحيح عن عروة بن الزبير أنه سألها عن قول الله تعالى: حتى إذا استيأس الرسل"، قال: قلت: أكُذِبوا أم كُذِّبوا؟ قالت عائشة: كُذِّبوا، قلت: فقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم، فما هو بالظن، قالت: أجل لعمري، لقد استيقنوا بذلك، فقلت لها: وظنوا أنهم قد كذبوا؟ قالت: معاذ الله، لم تكن الرسل تظن ذلك بربها، قلت: فما هذه الآية؟ قالت: (هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم، فطال عليهم البلاء، واستأخر عنهم النصر، حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم، جاءهم نص الله عند ذلك) .
وفي الصحيح أيضاً عن ابن جريج قال: سمعت ابن أبي مليكة يقول: قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كَذبوا" خفيفة، ذهب بها هناك، وتلا: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} ، فلقيت عروة بن الزبير، فذكرت له ذلك، فقال: قالت عائشة: (معاذ الله، والله ما وعد الله رسوله من شيء قط إلا علم أنه كان قبل أن يموت، ولكن لم يزل البلاد بالرسل حتى خافوا أن يكون من معك يكذبونهم)، فكانت تقرؤها "وظنوا أنهم قد كُذِّبوا" مثقلة .
ولمزيد إيضاح لهذا القول، أشير إلى النقاط التالية:
1 - جعلت عائشة - رضي الله عنها - استيأس الرسل (ص) من الكفار المكذبين، وظنهم التكذيب من المؤمنين بهم.
2 - 2 - الظن هنا بمعنى الحسبان ، وعند بعضهم هو بمعنى ترجيح أحد المحتملين ، والضمائر المذكورة في هذه الآية عائدة على الرسل-عليهم الصلاة والسلام- بذلك معنى بعد ثبوتها، ولعلها لم يبلغها ممن يرجع إليه في ذلك، .... وقال الكرماني: لم تنكر عائشة القراءة، وإنما أنكرت تأويل ابن عباس، كذا قال، وهو خلاف الظاهر) . وهناك من ذهب إلى أن عائشة - رضي الله عنها - لم تنكر القراءة بالتخفيف، وأن ما روي عنها من الإنكار على من قرأ بالتخفيف إنما هو لتفسير الآية، حتى لا يفهم أن الشك لاحق بالرسل، وإلا فقد روي عنها القراءة بالتخفيف أيضاً
4 - الذي يظهر - والله أعلم - أن المعنى الذي لأجله قالت عائشة بقولها في تفسير هذه الآية، وقراءتها لـ "كُذِّبوا" بالتشديد، وإنكارها على من قرأ بالتخفيف، هو تعظيم الرسل (ص)، وعصمتهم وتنزيههم من نسبة الشك إليهم، أو إساءة الظن بربهم عز وجل، وقد صرحت بذلك في الحديث السابق، عندما قال لها عروة: فما هو بالظن، قالت: أجل لعمري، لقد استيقنوا بذلك، فقال لها عروة: وظنوا أنهم قد كُذِبوا؟ قالت: معاذ الله، لم تكن الرسل تظن ذلك بربها ... الحديث) وأيضاً في ردها تفسير ابن عباس - السابق ذكره، وسيأتي له مزيد بيان-، عندما قالت: (معاذ الله، والله ما وعد الله رسوله من شيء قط إلا علم أنه كان قبل أن يموت .... )
وهذا هو المعنى الذي لأجله رجح بعض المفسرين وأهل العلم قول عائشة - رضي الله عنها - في تفسير هذه الآية، حتى إن القرطبي صدّر تفسيره لهذه الآية بقوله: (وهذه الآية فيها تنزيه الأنبياء وعصمتهم عما لا يليق بهم، وهذا الباب عظيم، وخطره جسيم، ينبغي الوقوف عليه لئلا يزل الإنسان فيكون في سواء الجحيم) .
وممن رجح هذا القول لأجل ما ذكر سابقاً: القاضي عياض، حيث قال: (فإن قيل: فما معنى قوله: "حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا" على قراءة التخفيف؟ قلنا: المعنى في ذلك ما قالته عائشة - رضي الله عنها -: (معاذ الله أن تظن ذلك الرسل بربها، وإنما معنى ذلك أن الرسل لما استيأسوا ظنوا أن من وعدهم النصر من أتباعهم كذبوهم)، وعلى هذا أكثر المفسرين، وقيل إن ضمير "ظنوا" عائد على الأتباع والأمم، لا علي الأنبياء والرسل، وهو قول ابن عباس، والنخعي، وابن جبير، وجماعة من العلماء، وبهذا المعنى قرأ مجاهد "كَذَبوا" بالفتح، فلا تشغل بالك من شاذ التفسير بسواه مما لا يليق بمنصب العلماء فكيف بالأنبياء؟) .
وابن عطية في قوله: ( ... وتحتمل هذه القراءة أيضاً أن يكون الضمير في "ظنوا"، وفي "كذبوا" عائد على الرسل، والمعنى: كذبهم من أخبرهم عن الله، والظن على بابه، وحكى هذا التأويل قوم من أهل العلم، والرسل بشر فضعفوا وساء ظنهم، قاله ابن عباس، وابن مسعود أيضاً، وابن جبير، وقال: ألم يكونوا بشراً؟ وقال ابن مسعود لمن سأله عن هذا: هو الذي نكره، وردت هذا التأويل عائشة أم المؤمنين، وجماعة من أهل العلم، وأعظموا أن توصف الرسل بهذا، وقال أبو علي الفارسي: هذا غير جائز على الرسل. قال القاضي أبو محمد: وهذا هو الصواب، وأين العصمة والعلم؟) .
ورجحه أيضاً: ابن قتيبة ، والفخر الرازي ، والثعالبي ، وغيرهم من أهل العلم .
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا بعد بيان قول عائشة وردها لتفسير ابن عباس، هو: هل تضمن تفسير ابن عباس لهذه الآية طعناً في العصمة، أو قدحاً في الرسالة؟ سيأتي بيان هذا بالتفصيل - إن شاء الله تعالى -
الثاني: ذهب الحسن وقتادة إلى أن المعنى: حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يؤمنوا بهم، وأيقنت الرسل أن قومهم قد كذبوهم
وعلى هذا القول فالضميران في "ظنوا" و "كذبوا" يعودان على الرسل (ص)، والظن هنا بمعنى اليقين.
وقد ضعَّف الإمام الطبري هذا القول، فقال: (وهذا التأويل الذي ذهب إليه الحسن وقتادة في ذلك، إذا قرئ بتشديد الذال وضم الكاف، خلاف لما ذكرنا من أقوال جميع من حكينا قوله من الصحابة؛ لأنه لم يوجه "الظن" في هذا الموضع منهم أحد إلى معنى العلم واليقين، مع أن الظن" إنما استعمله العرب في موضع العلم فيما كان من علم أدرك من جهة الخبر، أو من غير وجه المشاهدة والمعاينة، فإنها لا تستعمل فيه "الظن"، لا تكاد تقول: "أظنني حيا، وأظنني إنساناً"، بمعنى: أعلمني إنساناً، وأعلمني حياً، والرسل الذين كذبتهم أممهم لاشك أنها كانت لأممها شاهدة، ولتكذيبها إياها منها سامعة، فيقال فيها: ظننت بأممها أنها كذبتها) .
أما القراءة بالتخفيف "كُذِبوا"، ففيها وجهان من التفسير أيضاً:
الأول: عن ابن عباس، وابن مسعود وعن سعيد بن جبير أن المعنى: حتى إذا استيأس الرسل، وكانوا بشراً، فضعفوا، وظنوا أنهم أُخيفوا .
وقد تقدم حديث ابن عباس في الصحيح، عن ابن جريج قال: سمعت ابن أبي مليكة يقول: قال ابن عباس: "حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا" خفيفة، ذهب بها هناك، وتلا: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} .
وعن ابن أبي مليكة قال: قرأ ابن عباس: "حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا" قال: (وكانوا بشراً ضعفوا ويئسوا) .
وعن ابن جريج قال: أخبرني ابن أبي مليكة، عن ابن عباس قرأ: "وظنوا أنهم قد كُذِبوا" خفيفة، قال ابن جريج: أقول كما يقول: أُخْلِفوا، قال عبد الله: قال لي ابن عباس: (كانوا بشراً، وتلا ابن عباس: "حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب"، قال ابن جريج، قال ابن أبي مليكة: ذهب إلى أنهم ضعفوا فظنوا أنهم أُخْلِفوا) .
وعن مسروق، عن ابن مسعود أنه قرأ: "حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا" مخففة، قال عبد الله: (هو الذي تكره) .
وعن أبي بشر، عن سعيد بن جبير أنه قال في هذه الآية: "حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا" قلت: "كُذِبوا" قال: (نعم، ألم يكونوا بشرا) .
ولبيان هذا القول لابد من الإشارة إلى الأمور التالية:
1 - قال الطبري (وقد ذهب قوم ممن قرأ هذه القراءة - يعني قراءة التخفيف - إلى غير التأويل الذي اخترنا، ووجهوا معناه إلى: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم، وظنت الرسل أنهم كذبوا فيما وعدوا من النصر) ، ثم نقل بسنده أقوال ابن عباس، وابن مسعود، وسعيد بن جبير، السابق ذكرها.
قلت: هكذا نقل الطبري هذا التفسير عن ابن عباس وغيره، حيث جعل استيأس الرسل من إيمان قومهم، مع أن المتأمل في أقوال ابن عباس، وابن مسعود، وسعيد بن جبير السابقة يرى فيها مطلق الوصف بالاستيئاس، وعدم تقييده، فهذه أقوالهم كما نقلها عنهم الطبري وغيره، ليس فيها تقييد الاستيئاس، أو ما يفيد بأنهم استيأسوا من إيمان قومهم، أو أنهم استيأسوا مما وعدوا به ، وقد نقل كثير من المفسرين قول ابن عباس وغيره، فلم يذكروا عنهم ذلك، وإنما مطلق الوصف بالاستيئاس، وما ورد في الآثار السابقة من أنهم كانوا بشراً، وأنهم ضعفوا فظنوا أنهم أخلفوا .
2 - الضميران في "ظنوا" و "كذبوا" بناء على هذا القول عائدان على الرسل - عليهم الصلاة والسلام-، والظن هنا على بابه .
3 - هناك من أنكر نسبة هذا القول لابن عباس أو شكك في صحة نسبته إليه .
وهذا غير صحيح، فقد ثبت هذا القول عنه، وبعضه في الصحيح، كما تقدم، وكذلك ما أثر عن ابن مسعود - رضي الله عنه - ثابت بأسانيد صحيحة.
قال الحافظ ابن حجر بعد أن أورد قول اب عباس: (وعجب لابن الأنباري في جزمه بأنه لا يصح، ثم الزمخشري في توقفه عن صحة ذلك عن ابن عباس، فإنه صح عنه .. ) .
4 - وهناك فريق آخر ذهب إلى رد قول ابن عباس ومن معه، أو تضعيفه، وحجتهم منافاة هذا القول لما تقرر من عصمة الرسل (ص)، وتضمنه نسبة ما لا يليق إليهم.
وقد تقدم ما أثر عن عائشة في هذا الشأن، وترجيح بعض المفسرين لرأيها .
وقال الطبري، بعد أن ساق الأسانيد إلى ابن عباس وغيره بهذا القول: ( ... وهذا تأويلٌ وقولٌ، غيره من التأويل أولى عندي بالصواب، وخلافه من القول أشبه بصفات الأنبياء، والرسل إن جاز أن يرتابوا بوعد الله إياهم، ويشكوا في حقيقة خبره، مع معاينتهم من حجج الله وأدلته مالا يعانيه المرسل إليهم فيعذروا في ذلك، فإن المرسل إليهم لأولى في ذلك منهم بالعذر، وذلك قول إن قاله قائل لا يخفى أمره) .
وقال الفخر الرازي، في معرض ذكره لأوجه التفسير في قراءة "كُذِبوا" بالتخفيف: (والوجه الثاني: أن يكون المعنى أن الرسل ظنوا أنهم قد كذبوا فيما وعدوا، وهذا التأويل منقول عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، قالوا: إنما كان الأمر كذلك لأجل ضعف البشرية، إلا أنه بعيد؛ لأن المؤمن لا يجوز أن يظن بالله الكذب، بل يخرج بذلك عن الإيمان، فكيف يجوز مثله على الرسل!) .
5 - ذهب فريق ثالث إلى تأويل كلام ابن عباس ومن معه، وحمله على الوجوه التالية:
- قال الزمخشري: ( ... فإن صح هذا عن ابن عباس فقد أراد بالظن ما يخطر بالبال ويهجس في القلب من شبه الوسوسة، وحديث النفس على ما عليه البشرية، وأما الظن الذي هو ترجح أحد الجائزين على الآخر فغير جائز على رجل من المسلمين، فما بال رسل الله الذين هم أعرف الناس بربهم! .... ) .
- وقيل: المراد بظنهم (ص) ذلك، المبالغة في التراخي والإمهال، على طريق الاستعارة التمثيلية، بأن شبه المبالغة في التراخي بطن الكذب، باعتبار استلزام كل منهما؛ لعدم ترتب المطلوب، فاستعمل ما لأحدهما للآخر.
- ونقل عن الخطابي قوله: (لاشك أن ابن عباس لا يجيز على الرسل أنها تكذب بالوحي، ولا تشك في صدق المخبر، فيحمل كلامه على أنه أراد أنهم لطول البلاء عليهم، وإبطاء النصر، وشدة استنجاز ما وعدوا به، توهموا أن الذي جاءهم من الوحي كان حسباناً من أنفسهم، وظنوا عليها الغلط في تلقي ما ورد عليهم من ذلك، فيكون الذي بنى له الفعل أنفسهم، لا الآتي بالوحي، والمراد بالكذب: الغلط، لا حقيقة الكذب، كما يقول القائل، كذبتك نفسك).
قال الحافظ ابن حجر: (ويؤيده قراءة مجاهد "وظنوا أنهم قد كَذَبوا" بفتح أوله مع التخفيف، أي: غلطوا، ويكون فاعل "وطنوا" الرسل) .
- وقال أبو النصر القشيري: (ولا يبعد أن المراد خطر بقلوب الرسل، فصرفوه عن أنفسهم، أو المعنى: قربوا من الظن، كما يقال: بلغت المنزل، إذا قربت منه).
- وقال الحكيم الترمذي: (وجهه أن الرسل كانت تخاف بعد أن وعدهم الله النصر، أن يتخلف النصر، لا من تهمة بوعد الله، بل لتهمة النفوس أن تكون قد أحدثت حدثاً ينقض ذلك الشرط، فكان الأمر إذا طال، واشتد البلاء عليهم، دخلهم الظن من هذه الجهة) .
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام طويل في تفسير هذه الآية ، ذكر فيه أن القراءة بالتخفيف ثابتة لا يمكن إنكارها، وقد تأولها ابن عباس، وظاهر الكلام معه. كما أجاب عن الظن في قوله تعالى: "وظنوا أنهم قد كٌذِبوا" بأنه قد يكون مثل قوله تعالى: {إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} .
وقد يكون من حديث النفس المعفو عنه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله عز وجل تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل، أو تكلم به" .
وقد يكون من باب الوسوسة التي هي صريح الإيمان، كما ثبت في الصحيح أن الصحابة قالوا: يا رسول الله! إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يحرق حتى يصير حممة، أو يخرق السماء إلى الأرض أحب إليه من أن تتكلم به، قال: "أو قد وجدتموه؟ " قالوا: نعم، قال: "ذلك صريح الإيمان ... " .
ثم أطال - رحمه الله - في الحديث عن معنى الظن، إلى أن ذكر أن الرسل (ص) قد يكونون ظنوا في الموعود به ما ليس هو فيه بطريق الاجتهاد منهم، فتبين الأمر بخلافه، فإذا ظن بالموعود به ما ليس هو فيه، ثم تبين الأمر بخلافه ظن أن ذلك كذب، وكان كذباً من وجهة ظن في الخير مالا يجب أن يكون فيه، فأما الشك فيما يعلم أنه أخبر به فهذا لا يكون .
أما الحافظ ابن حجر فقد ذهب إلى أن ابن عباس كان يقصد من قوله: كانوا بشراً ... الخ، أتباع الرسل، لا نفس الرسل (ص)، وفي هذا يقول: (ولا يظن بابن عباس أن يجوز على الرسول أن نفسه تحدثه بأن الله يخلف وعده، بل الذي يظن بابن عباس أنه أراد بقوله: كانوا بشر .... إلى آخر كلامه من آمن من أتباع الرسل لا نفس الرسل، وقول الراوي عنه: ذهب بها هناك، أي إلى السماء، معناه أن أتباع بعض الأتباع) .
الثاني: حتى إذا استياس الرسل من أن يستجيب لهم قومهم، وظن قومهم أن الرسل قد كَذَبوهم فيما أخبروهم به، جاء الرسل نصرنا.
ينسب هذا القول إلى ابن عباس، وابن مسعود، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك، وغيرهم.
قال الطبري (يقول تعالى ذكره: "وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى"، فدعوا من أرسلنا غليهم، فكذبوهم وردوا ما أتوا به من عند الله، "حتى إذا استيأس الرسل" الذين أرسلناهم إليهم منهم أن يؤمنوا بالله، ويصدقوهم فيما أتوهم به من عند الله، وطن الذين أرسلناهم إليهم من الأمم المكذبة أن الرسل الذين أرسلناهم قد كذبوهم فيما كانوا أخبروهم عن الله، من وعده إياهم نصرهم عليهم، "جاءهم نصرنا"، وذلك قول جماعة من أهل التأويل ... )
ثم ساق هذا القول باسانيد كثيرة إلى ابن عباس، وابن مسعود، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك، وغيرهم، ومن ذلك:
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: "حتى إذا استياس الرل وظنوا أنهم قد كذبوا" قال: (لما أيست الرسل أن يستجيب لهم قومهم، وظن قومهم أن الرسل قد كذبوهم، جاءهم النصر على ذلك، فننجي من نشاء) .
ثم ساق - رحمه الله - أسانيد كثيرة إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - بهذا القول . كما ساق بسنده إلى تميم بن حذلم، قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول في هذه الآية: "حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا" قال: (استيأس الرسل من إيمان قومهم أن يؤمنوا بهم، وظن قومهم حين أبطأ الأمر أنهم قد كذبوا، بالتخفيف) .
وساق بسنده إلى غبراهيم بن أبي حرة الجزري، قال: سأل فتى من فريش سعيد بن جبير فقال له: يا أبا عبد الله، كيف تقرأ هذا الحرف، فإني إذا أتيت عليه تمنيت أن لا أقرأ هذه السورة: "حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا"؟ قال: نعم، حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدقوهم، وظن المرسل إليهم أن الرسل كَذَبوا، قال: فقال الضحاك بن مزاحم، ما رأيت كاليوم قط رجلاً يدعي إلى علم فيتلكأ! لو رحلت في هذه إلى اليمن كان قليلاً! .
وعن مسلم بن يسار أنه سأل سعيد بن جبير، فقال: يا أبا عبد الله، آية بلغت مني كل مبلغ: "حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا"، فهذا الموت، أن تظن الرسل أنهم قد كُذبوا"، أو تظن أنهم قد كَذَبوا، مخففة! قال: فقال سعيد بن جبير: يا أبا عبد الرحم، حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يستجيبوا لهم، وظن قومهم أن الرسل كذبتهم، "جاءهم نصرنا"
والحقيقة هى أن الياس من ايمان الكفار وتفسير ألآية هو :
"حتى إذ استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجى من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين "المعنى حتى إذا قنط المبعوثين وعلموا أنهم قد كفر بهم أتاهم تأييدنا فننقذ من نريد ولا يمنع عذابنا عن الناس الكافرين ،يبين الله لنبيه (ص)أن الرسل وهم المبعوثين (ص)إذا استيئسوا أى قنطوا من إيمان الناس وفسر هذا بأنهم ظنوا أنهم قد كذبوا والمراد علموا أنهم قد كفر برسالتهم جاءهم بأسنا والمراد أتاهم تأييد الله لهم فنجى من نشاء والمراد فننقذ من نريد وهم الرسل والذين آمنوا معهم مصداق لقوله بسورة غافر"إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا"ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين والمراد ولا يمنع عذابنا عن الناس الكافرين وهذا يعنى أن لا أحد يقدر على إيقاف العقاب عن الكفار
المؤلف علي بن محمد بن سعيد الشهراني وهو يدور حول تفسير الآية التى يسمونها يأس الرسل(ص)وفى سبب تأليف البحث قال :
"وقد استوقفني في هذا الكتاب العظيم آية كريمة، ربما أشكلت على بعض الناس، هي قول الله عز وجل: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ}
والحديث عن معنى هذه الآية وتفسيرها يحتاج إلى تروٍّ وأناة، وفهم لكلام العلماء، خصوصاً وقد حصل الخلاف بين المفسرين في تفسيرها، بين من يرى أن استيئاس الرسل (ص) كان من إيمان قومهم، ومن يرى أن استيئاسهم كان من أن يعذب قومهم، ثم اختلافهم تبعاً لذلك في المراد من قول الله عز وجل: "وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا " على أقوال، سيأتي ذكرها - إن شاء الله تعالى-."
وبين أن الآية متعلقة بها مسائل عقيدية فقال :
"وليس المراد في هذا البحث سرد أقوال المفسرين في هذه الآية، أو الاستدراك عليهم، معاذ الله، ولكني رأيت الحاجة قائمة لبيان بعض المسائل العقدية المتعلقة بهذه الآية، ومن ذلك الرد على ما قد يتوهمه بعض الناس من مخالفتها لعصمة الرسل (ص)، بل إن بعضهم قد يجعلها حجة بجوزون بها المعصية على الأنبياء بمختلف صورها - والعياذ بالله -، وما قد يراه آخرون من أن بعض ما ورد من أهل العلم في تفسيرها يتضمن وصف الرسل (ص) لسوء الظن بربهم، وهذا يقدح في آحاد المؤمنين، فضلاً عن الأنبياء والمرسلين.
ولا يخفى ما يستحقه بحث هذه المسائل المتعلقة بالركن الرابع من أركان الإيمان، والأصل العظيم من أصول الدين "الإيمان بالرسل (ص)" من اهتمام وجهد، خصوصاً وأني لم أجد أحداً - حسب علمي بعد البحث والاطلاع - خصَّ هذا الموضوع بكتابة مستقلة، وإنما هي إشارات في بطون الكتب.
لهذا وغيره كانت الرغبة قوية في كتابة هذا البحث الموجز، الذي أرجو أن أسهم فيه بجهد المقل في الإشارة إلى أقوال أهل العلم المفسِّرة لمعنى استيئاس الرسل الوارد في هذه الآية، والقراءات المذكورة فيها، وبيان أنها مع اختلاف لفظها ومعناها، لا تتصادم ولا تتناقض، واختلافها - والله أعلم - هو من باب اختلاف التنوع، لا من باب اختلاف القضاء، مع التركيز على ما يتعلق بالعقيدة، وخصوصاً في باب عصمة الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، والتأكيد على أن ما ورد في هذه الآية لا ينقي ما تقرر من عصمتهم، أو ينسب إليهم مالا يليق بهم، ووسمته بـ: "البيان لمعنى استيئاس الرسل (ص)" "
وفى مستهل البحث تحدث عن المعنى اللغوى للكلمة فقال :
"معنى الاستيئاس
قال ابن فارس: ("يأس" الياء والهمزة والسين، كلمتان: إحداهما اليأس: قطع الرجاء، ويقال إنه ليست ياء في صدر كلمة بعدها همزة إلا هذه، يقال منه: يئس، ييأس، وييئس، على يفعَل، ويفعِل.
والكلمة الأخرى: ألم تيأس، أي ألم تعلم، وقالوا في قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا} ، أي: أفلم يعلم، وأنشدوا:
أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم .
واليأس: القنوط، والمصدر: اليأس، والياسة، واليأَس، وقد استيأس، وأيأسته، وإنه ليائس ويئس ويؤوس ويَؤُس، والجمع يؤوس وآيسه فلان من كذا فاستيأس منه، بمعنى أيس، واتأس أيضاً، وهو افتعل، فأدغم مثل اتَّعد .
قال الراغب الأصفهاني: (اليأس: انتفاء الطمع، يقال: يئس واستيأس، مثل عجب واستعجب، وسخر واستسخر، قال تعالى: {فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} ، وقال: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ} ، وقال: {قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآَخِرَةِ} ، وقال: {إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} ، وقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا} ، قيل معناه: أفلم يعلموا، ولم يرد في كلامهم أن اليأس موضوع للعلم، وإنما قصد أن يأس الذين آمنوا من ذلك يقتضي أن يحصل بعد العلم بانتفاء ذلك)
ويقال: يئست المرأة، إذا عقمت، فهي يائس، كما يقال حائض وطامث، فإن لم يذكر الموصوف قلت يائسة
وهناك من اللغويين من يرى أن "يأس" لغة في "يئست"، ويجعل مصدرها واحداً قال ابن السكيت: (أيست منه آيس يأسا، لغة في يئست منه أيأس يأسا، ومصدرهما واحد، وآيسني منه فلان، مثل أيأسني، وكذلك التأييس)
وبعضهم يقول هو مقلوب من يئس، وليس بلغة فيه
قال ابن فارس: ("أيس" الهمزة والياء والسين ليس أصلاً يقاس عليه، ولم يأت فيه إلا كلمتان ما أحسبهما من كلام العرب، وقد ذكرناهما لذكر الخليل إياهما، قال الخليل: أيس كلمة قد أميتت، غير أن العرب تقول: ائت به من حيث أيس وليس، لم يستعمل أيس إلا في هذه فقط، وإنما معناها كمعنى حيث هو في حال الكينونة والوجد والجدة، وقال: إن ليس معناها لا أيس، أي لا وجد.
والكلمة الأخرى قول الخليل إن التأييس الاستقلال، يقال ما أيسنا فلانا، أي ما استقللنا منه خيرا ... ) .
وقرأ ابن كثير: "استايسوا"، "ولاتايسوا"، "إنه لا يايس"، "أفلم يايس"، بألف من غير همز على القلب، قدمت الهمزة وأخرت الياء، ثم قلبت الهمزة ألفا؛ لأنها ساكنة قبلها فتحة، والأصل قراءة الجماعة .
والاستيئاس استفعال من اليأس، والاستفعال يقع على وجوه، منها: أن يكون لطلب الفعل من الغير، فالاستخراج والاستفهام والاستعلام يكون في الأفعال المتعدية، يقال: استخرجت المال من غيري، ولا يصلح هذا أن يكون معنى الاستيئاس، فإن أحداً لا يطلب اليأس ويستدعيه، ولأن استيأس فعل لازم لا متعدي.
ويكون أيضاً للاستفعال لصيرورة المستفعل على صفة غيره، وهذا في الأفعال اللازمة، كقولهم: استحجر الطين، أي صار كالحجر وأخيراً نقل عن بعض أهل اللغة أن الاستيئاس هو الاقتراب من اليأس بظهور آثاره لمكان هيئة الاستفعال، وهو مما يُعد يأساً عرفاً، وليس باليأس القاطع حقيقة ."
وتحدث عن تفسير اليأس في الآية فقال :
"هذا عن معنى اليأس والاستيئاس في اللغة، فما معنى استيأس الرسل (ص) الوارد في الآية؟ وما المراد بقوله عز وجل بعد ذكر هذا الاستيئاس "وظنُّوا أنهم قد كذبوا"؟ وممن وقع هذا الظن؟ كل هذا سيتبين لنا في المبحث التالي - بإذن الله-. أقوال أهل العلم في المراد باستيئاس الرسل - عليهم الصلاة والسلام-
قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} .
اختلف المفسرون فيما تعلقت به الغاية من قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ} بعد اتفاقهم على أنه محذوف، فقيل: التقدير وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً فدعوا قومهم فكذبوهم، وصبروا، وطال دعاؤهم وتكذيب قومهم، حتى إذا استيأس الرسل ... الخ، وقال بعضهم: التقدير وما أرسلنا من قبل إلا رجالاً فتراخى النصر عنهم حتى إذا استيأس الرسل ... الخ، وقبل: التقدير وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً ثم لم نعاقب أممهم حتى إذا استيأس الرسل ... الخ، وقبل إن التقدير: لا يغرنهم تماديهم فيما هم فيه من الدعة والرخاء، فإن من قبلهم قد أمهلوا حتى يئس الرسل من النصر عليهم في الدنيا، أو من إيمانهم لانهماكهم في الكفر، وتماديهم في الطغيان من غير وازع .
وقد أطال المفسرون وأهل العلم في الحديث حول هذه الآية، وتكلموا في تفسيرها بما فيه مقنع وغناء عن أن يوضح بغير لفظهم."
قطعا الحديث ليس عن تراخى النصر في الآية وإنما المعنى قنوط الرسل(ص) ممن إيمان أقوامهم على حد قوله تعالى :
" إنه لم يؤمن من قومك إلا من قد آمن وما آمن معه إلا قليل "
وتحدث عن اختلاف القراءات في الآية فقال :
"وقبل ذكر هذه الأقوال لابد من الإشارة إلى أنه قد تنوعت القراءات في قوله تعالى: "وظنوا أنهم قد كذبوا":
فقرأ أبو جعفر وعاصم وحمزة والكسائي وخلف: "وظنوا أنهم قد كُذِبوا"، بضم الكاف وتخفيف الذال مع كسرها، بالبناء للمفعول، وهذه أيضاً قراءة ابن عباس، وابن مسعود - رضي الله عنهم-، والأعمش، وغيرهم. قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب: "قد كُذِّبوا"، بضم الكاف وتشديد الذال، ووافقهم ابن محيصن واليزيدي والحسن، وغيرهم .
وهاتان القراءتان ثابتتان، وهما من القراءات السبع وهناك قراءة شاذة تروى عن مجاهد والضحاك "قد كَذَبوا"، بفتح الكاف والذال مع تخفيفها.
قال الإمام الطبري: (وروي عن مجاهد في ذلك قول هو خلاف جميع ما ذكرنا من أقوال الماضين، الذين سمينا أسماؤهم، وذكرنا أقوالهم، وتأويل خلاف تأويلهم، وقراءة غير قراءة جميعهم، وهو أنه فيما ذكر عنه كان يقرأ: "وظنوا أنهم قد كَذَبوا" بفتح الكاف والذال وتخفيف الذال، ... وهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها؛ لإجماع الحجة من قرأة الأمصار على خلافها ... ) .
أقوال أهل العلم بناءً على القراءتين:
القراءة بالتشديد "كذِّبوا" فيها وجهان من التفسير:
الأول: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان من كذبهم من قومهم، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم؛ لما لحقهم من البلاء والامتحان، وتأخر النصر.
وبهذا قالت عائشة - رضي الله عنها-، ففي الصحيح عن عروة بن الزبير أنه سألها عن قول الله تعالى: حتى إذا استيأس الرسل"، قال: قلت: أكُذِبوا أم كُذِّبوا؟ قالت عائشة: كُذِّبوا، قلت: فقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم، فما هو بالظن، قالت: أجل لعمري، لقد استيقنوا بذلك، فقلت لها: وظنوا أنهم قد كذبوا؟ قالت: معاذ الله، لم تكن الرسل تظن ذلك بربها، قلت: فما هذه الآية؟ قالت: (هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم، فطال عليهم البلاء، واستأخر عنهم النصر، حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم، جاءهم نص الله عند ذلك) .
وفي الصحيح أيضاً عن ابن جريج قال: سمعت ابن أبي مليكة يقول: قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كَذبوا" خفيفة، ذهب بها هناك، وتلا: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} ، فلقيت عروة بن الزبير، فذكرت له ذلك، فقال: قالت عائشة: (معاذ الله، والله ما وعد الله رسوله من شيء قط إلا علم أنه كان قبل أن يموت، ولكن لم يزل البلاد بالرسل حتى خافوا أن يكون من معك يكذبونهم)، فكانت تقرؤها "وظنوا أنهم قد كُذِّبوا" مثقلة .
ولمزيد إيضاح لهذا القول، أشير إلى النقاط التالية:
1 - جعلت عائشة - رضي الله عنها - استيأس الرسل (ص) من الكفار المكذبين، وظنهم التكذيب من المؤمنين بهم.
2 - 2 - الظن هنا بمعنى الحسبان ، وعند بعضهم هو بمعنى ترجيح أحد المحتملين ، والضمائر المذكورة في هذه الآية عائدة على الرسل-عليهم الصلاة والسلام- بذلك معنى بعد ثبوتها، ولعلها لم يبلغها ممن يرجع إليه في ذلك، .... وقال الكرماني: لم تنكر عائشة القراءة، وإنما أنكرت تأويل ابن عباس، كذا قال، وهو خلاف الظاهر) . وهناك من ذهب إلى أن عائشة - رضي الله عنها - لم تنكر القراءة بالتخفيف، وأن ما روي عنها من الإنكار على من قرأ بالتخفيف إنما هو لتفسير الآية، حتى لا يفهم أن الشك لاحق بالرسل، وإلا فقد روي عنها القراءة بالتخفيف أيضاً
4 - الذي يظهر - والله أعلم - أن المعنى الذي لأجله قالت عائشة بقولها في تفسير هذه الآية، وقراءتها لـ "كُذِّبوا" بالتشديد، وإنكارها على من قرأ بالتخفيف، هو تعظيم الرسل (ص)، وعصمتهم وتنزيههم من نسبة الشك إليهم، أو إساءة الظن بربهم عز وجل، وقد صرحت بذلك في الحديث السابق، عندما قال لها عروة: فما هو بالظن، قالت: أجل لعمري، لقد استيقنوا بذلك، فقال لها عروة: وظنوا أنهم قد كُذِبوا؟ قالت: معاذ الله، لم تكن الرسل تظن ذلك بربها ... الحديث) وأيضاً في ردها تفسير ابن عباس - السابق ذكره، وسيأتي له مزيد بيان-، عندما قالت: (معاذ الله، والله ما وعد الله رسوله من شيء قط إلا علم أنه كان قبل أن يموت .... )
وهذا هو المعنى الذي لأجله رجح بعض المفسرين وأهل العلم قول عائشة - رضي الله عنها - في تفسير هذه الآية، حتى إن القرطبي صدّر تفسيره لهذه الآية بقوله: (وهذه الآية فيها تنزيه الأنبياء وعصمتهم عما لا يليق بهم، وهذا الباب عظيم، وخطره جسيم، ينبغي الوقوف عليه لئلا يزل الإنسان فيكون في سواء الجحيم) .
وممن رجح هذا القول لأجل ما ذكر سابقاً: القاضي عياض، حيث قال: (فإن قيل: فما معنى قوله: "حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا" على قراءة التخفيف؟ قلنا: المعنى في ذلك ما قالته عائشة - رضي الله عنها -: (معاذ الله أن تظن ذلك الرسل بربها، وإنما معنى ذلك أن الرسل لما استيأسوا ظنوا أن من وعدهم النصر من أتباعهم كذبوهم)، وعلى هذا أكثر المفسرين، وقيل إن ضمير "ظنوا" عائد على الأتباع والأمم، لا علي الأنبياء والرسل، وهو قول ابن عباس، والنخعي، وابن جبير، وجماعة من العلماء، وبهذا المعنى قرأ مجاهد "كَذَبوا" بالفتح، فلا تشغل بالك من شاذ التفسير بسواه مما لا يليق بمنصب العلماء فكيف بالأنبياء؟) .
وابن عطية في قوله: ( ... وتحتمل هذه القراءة أيضاً أن يكون الضمير في "ظنوا"، وفي "كذبوا" عائد على الرسل، والمعنى: كذبهم من أخبرهم عن الله، والظن على بابه، وحكى هذا التأويل قوم من أهل العلم، والرسل بشر فضعفوا وساء ظنهم، قاله ابن عباس، وابن مسعود أيضاً، وابن جبير، وقال: ألم يكونوا بشراً؟ وقال ابن مسعود لمن سأله عن هذا: هو الذي نكره، وردت هذا التأويل عائشة أم المؤمنين، وجماعة من أهل العلم، وأعظموا أن توصف الرسل بهذا، وقال أبو علي الفارسي: هذا غير جائز على الرسل. قال القاضي أبو محمد: وهذا هو الصواب، وأين العصمة والعلم؟) .
ورجحه أيضاً: ابن قتيبة ، والفخر الرازي ، والثعالبي ، وغيرهم من أهل العلم .
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا بعد بيان قول عائشة وردها لتفسير ابن عباس، هو: هل تضمن تفسير ابن عباس لهذه الآية طعناً في العصمة، أو قدحاً في الرسالة؟ سيأتي بيان هذا بالتفصيل - إن شاء الله تعالى -
الثاني: ذهب الحسن وقتادة إلى أن المعنى: حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يؤمنوا بهم، وأيقنت الرسل أن قومهم قد كذبوهم
وعلى هذا القول فالضميران في "ظنوا" و "كذبوا" يعودان على الرسل (ص)، والظن هنا بمعنى اليقين.
وقد ضعَّف الإمام الطبري هذا القول، فقال: (وهذا التأويل الذي ذهب إليه الحسن وقتادة في ذلك، إذا قرئ بتشديد الذال وضم الكاف، خلاف لما ذكرنا من أقوال جميع من حكينا قوله من الصحابة؛ لأنه لم يوجه "الظن" في هذا الموضع منهم أحد إلى معنى العلم واليقين، مع أن الظن" إنما استعمله العرب في موضع العلم فيما كان من علم أدرك من جهة الخبر، أو من غير وجه المشاهدة والمعاينة، فإنها لا تستعمل فيه "الظن"، لا تكاد تقول: "أظنني حيا، وأظنني إنساناً"، بمعنى: أعلمني إنساناً، وأعلمني حياً، والرسل الذين كذبتهم أممهم لاشك أنها كانت لأممها شاهدة، ولتكذيبها إياها منها سامعة، فيقال فيها: ظننت بأممها أنها كذبتها) .
أما القراءة بالتخفيف "كُذِبوا"، ففيها وجهان من التفسير أيضاً:
الأول: عن ابن عباس، وابن مسعود وعن سعيد بن جبير أن المعنى: حتى إذا استيأس الرسل، وكانوا بشراً، فضعفوا، وظنوا أنهم أُخيفوا .
وقد تقدم حديث ابن عباس في الصحيح، عن ابن جريج قال: سمعت ابن أبي مليكة يقول: قال ابن عباس: "حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا" خفيفة، ذهب بها هناك، وتلا: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} .
وعن ابن أبي مليكة قال: قرأ ابن عباس: "حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا" قال: (وكانوا بشراً ضعفوا ويئسوا) .
وعن ابن جريج قال: أخبرني ابن أبي مليكة، عن ابن عباس قرأ: "وظنوا أنهم قد كُذِبوا" خفيفة، قال ابن جريج: أقول كما يقول: أُخْلِفوا، قال عبد الله: قال لي ابن عباس: (كانوا بشراً، وتلا ابن عباس: "حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب"، قال ابن جريج، قال ابن أبي مليكة: ذهب إلى أنهم ضعفوا فظنوا أنهم أُخْلِفوا) .
وعن مسروق، عن ابن مسعود أنه قرأ: "حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا" مخففة، قال عبد الله: (هو الذي تكره) .
وعن أبي بشر، عن سعيد بن جبير أنه قال في هذه الآية: "حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا" قلت: "كُذِبوا" قال: (نعم، ألم يكونوا بشرا) .
ولبيان هذا القول لابد من الإشارة إلى الأمور التالية:
1 - قال الطبري (وقد ذهب قوم ممن قرأ هذه القراءة - يعني قراءة التخفيف - إلى غير التأويل الذي اخترنا، ووجهوا معناه إلى: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم، وظنت الرسل أنهم كذبوا فيما وعدوا من النصر) ، ثم نقل بسنده أقوال ابن عباس، وابن مسعود، وسعيد بن جبير، السابق ذكرها.
قلت: هكذا نقل الطبري هذا التفسير عن ابن عباس وغيره، حيث جعل استيأس الرسل من إيمان قومهم، مع أن المتأمل في أقوال ابن عباس، وابن مسعود، وسعيد بن جبير السابقة يرى فيها مطلق الوصف بالاستيئاس، وعدم تقييده، فهذه أقوالهم كما نقلها عنهم الطبري وغيره، ليس فيها تقييد الاستيئاس، أو ما يفيد بأنهم استيأسوا من إيمان قومهم، أو أنهم استيأسوا مما وعدوا به ، وقد نقل كثير من المفسرين قول ابن عباس وغيره، فلم يذكروا عنهم ذلك، وإنما مطلق الوصف بالاستيئاس، وما ورد في الآثار السابقة من أنهم كانوا بشراً، وأنهم ضعفوا فظنوا أنهم أخلفوا .
2 - الضميران في "ظنوا" و "كذبوا" بناء على هذا القول عائدان على الرسل - عليهم الصلاة والسلام-، والظن هنا على بابه .
3 - هناك من أنكر نسبة هذا القول لابن عباس أو شكك في صحة نسبته إليه .
وهذا غير صحيح، فقد ثبت هذا القول عنه، وبعضه في الصحيح، كما تقدم، وكذلك ما أثر عن ابن مسعود - رضي الله عنه - ثابت بأسانيد صحيحة.
قال الحافظ ابن حجر بعد أن أورد قول اب عباس: (وعجب لابن الأنباري في جزمه بأنه لا يصح، ثم الزمخشري في توقفه عن صحة ذلك عن ابن عباس، فإنه صح عنه .. ) .
4 - وهناك فريق آخر ذهب إلى رد قول ابن عباس ومن معه، أو تضعيفه، وحجتهم منافاة هذا القول لما تقرر من عصمة الرسل (ص)، وتضمنه نسبة ما لا يليق إليهم.
وقد تقدم ما أثر عن عائشة في هذا الشأن، وترجيح بعض المفسرين لرأيها .
وقال الطبري، بعد أن ساق الأسانيد إلى ابن عباس وغيره بهذا القول: ( ... وهذا تأويلٌ وقولٌ، غيره من التأويل أولى عندي بالصواب، وخلافه من القول أشبه بصفات الأنبياء، والرسل إن جاز أن يرتابوا بوعد الله إياهم، ويشكوا في حقيقة خبره، مع معاينتهم من حجج الله وأدلته مالا يعانيه المرسل إليهم فيعذروا في ذلك، فإن المرسل إليهم لأولى في ذلك منهم بالعذر، وذلك قول إن قاله قائل لا يخفى أمره) .
وقال الفخر الرازي، في معرض ذكره لأوجه التفسير في قراءة "كُذِبوا" بالتخفيف: (والوجه الثاني: أن يكون المعنى أن الرسل ظنوا أنهم قد كذبوا فيما وعدوا، وهذا التأويل منقول عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، قالوا: إنما كان الأمر كذلك لأجل ضعف البشرية، إلا أنه بعيد؛ لأن المؤمن لا يجوز أن يظن بالله الكذب، بل يخرج بذلك عن الإيمان، فكيف يجوز مثله على الرسل!) .
5 - ذهب فريق ثالث إلى تأويل كلام ابن عباس ومن معه، وحمله على الوجوه التالية:
- قال الزمخشري: ( ... فإن صح هذا عن ابن عباس فقد أراد بالظن ما يخطر بالبال ويهجس في القلب من شبه الوسوسة، وحديث النفس على ما عليه البشرية، وأما الظن الذي هو ترجح أحد الجائزين على الآخر فغير جائز على رجل من المسلمين، فما بال رسل الله الذين هم أعرف الناس بربهم! .... ) .
- وقيل: المراد بظنهم (ص) ذلك، المبالغة في التراخي والإمهال، على طريق الاستعارة التمثيلية، بأن شبه المبالغة في التراخي بطن الكذب، باعتبار استلزام كل منهما؛ لعدم ترتب المطلوب، فاستعمل ما لأحدهما للآخر.
- ونقل عن الخطابي قوله: (لاشك أن ابن عباس لا يجيز على الرسل أنها تكذب بالوحي، ولا تشك في صدق المخبر، فيحمل كلامه على أنه أراد أنهم لطول البلاء عليهم، وإبطاء النصر، وشدة استنجاز ما وعدوا به، توهموا أن الذي جاءهم من الوحي كان حسباناً من أنفسهم، وظنوا عليها الغلط في تلقي ما ورد عليهم من ذلك، فيكون الذي بنى له الفعل أنفسهم، لا الآتي بالوحي، والمراد بالكذب: الغلط، لا حقيقة الكذب، كما يقول القائل، كذبتك نفسك).
قال الحافظ ابن حجر: (ويؤيده قراءة مجاهد "وظنوا أنهم قد كَذَبوا" بفتح أوله مع التخفيف، أي: غلطوا، ويكون فاعل "وطنوا" الرسل) .
- وقال أبو النصر القشيري: (ولا يبعد أن المراد خطر بقلوب الرسل، فصرفوه عن أنفسهم، أو المعنى: قربوا من الظن، كما يقال: بلغت المنزل، إذا قربت منه).
- وقال الحكيم الترمذي: (وجهه أن الرسل كانت تخاف بعد أن وعدهم الله النصر، أن يتخلف النصر، لا من تهمة بوعد الله، بل لتهمة النفوس أن تكون قد أحدثت حدثاً ينقض ذلك الشرط، فكان الأمر إذا طال، واشتد البلاء عليهم، دخلهم الظن من هذه الجهة) .
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام طويل في تفسير هذه الآية ، ذكر فيه أن القراءة بالتخفيف ثابتة لا يمكن إنكارها، وقد تأولها ابن عباس، وظاهر الكلام معه. كما أجاب عن الظن في قوله تعالى: "وظنوا أنهم قد كٌذِبوا" بأنه قد يكون مثل قوله تعالى: {إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} .
وقد يكون من حديث النفس المعفو عنه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله عز وجل تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل، أو تكلم به" .
وقد يكون من باب الوسوسة التي هي صريح الإيمان، كما ثبت في الصحيح أن الصحابة قالوا: يا رسول الله! إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يحرق حتى يصير حممة، أو يخرق السماء إلى الأرض أحب إليه من أن تتكلم به، قال: "أو قد وجدتموه؟ " قالوا: نعم، قال: "ذلك صريح الإيمان ... " .
ثم أطال - رحمه الله - في الحديث عن معنى الظن، إلى أن ذكر أن الرسل (ص) قد يكونون ظنوا في الموعود به ما ليس هو فيه بطريق الاجتهاد منهم، فتبين الأمر بخلافه، فإذا ظن بالموعود به ما ليس هو فيه، ثم تبين الأمر بخلافه ظن أن ذلك كذب، وكان كذباً من وجهة ظن في الخير مالا يجب أن يكون فيه، فأما الشك فيما يعلم أنه أخبر به فهذا لا يكون .
أما الحافظ ابن حجر فقد ذهب إلى أن ابن عباس كان يقصد من قوله: كانوا بشراً ... الخ، أتباع الرسل، لا نفس الرسل (ص)، وفي هذا يقول: (ولا يظن بابن عباس أن يجوز على الرسول أن نفسه تحدثه بأن الله يخلف وعده، بل الذي يظن بابن عباس أنه أراد بقوله: كانوا بشر .... إلى آخر كلامه من آمن من أتباع الرسل لا نفس الرسل، وقول الراوي عنه: ذهب بها هناك، أي إلى السماء، معناه أن أتباع بعض الأتباع) .
الثاني: حتى إذا استياس الرسل من أن يستجيب لهم قومهم، وظن قومهم أن الرسل قد كَذَبوهم فيما أخبروهم به، جاء الرسل نصرنا.
ينسب هذا القول إلى ابن عباس، وابن مسعود، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك، وغيرهم.
قال الطبري (يقول تعالى ذكره: "وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى"، فدعوا من أرسلنا غليهم، فكذبوهم وردوا ما أتوا به من عند الله، "حتى إذا استيأس الرسل" الذين أرسلناهم إليهم منهم أن يؤمنوا بالله، ويصدقوهم فيما أتوهم به من عند الله، وطن الذين أرسلناهم إليهم من الأمم المكذبة أن الرسل الذين أرسلناهم قد كذبوهم فيما كانوا أخبروهم عن الله، من وعده إياهم نصرهم عليهم، "جاءهم نصرنا"، وذلك قول جماعة من أهل التأويل ... )
ثم ساق هذا القول باسانيد كثيرة إلى ابن عباس، وابن مسعود، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك، وغيرهم، ومن ذلك:
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: "حتى إذا استياس الرل وظنوا أنهم قد كذبوا" قال: (لما أيست الرسل أن يستجيب لهم قومهم، وظن قومهم أن الرسل قد كذبوهم، جاءهم النصر على ذلك، فننجي من نشاء) .
ثم ساق - رحمه الله - أسانيد كثيرة إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - بهذا القول . كما ساق بسنده إلى تميم بن حذلم، قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول في هذه الآية: "حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا" قال: (استيأس الرسل من إيمان قومهم أن يؤمنوا بهم، وظن قومهم حين أبطأ الأمر أنهم قد كذبوا، بالتخفيف) .
وساق بسنده إلى غبراهيم بن أبي حرة الجزري، قال: سأل فتى من فريش سعيد بن جبير فقال له: يا أبا عبد الله، كيف تقرأ هذا الحرف، فإني إذا أتيت عليه تمنيت أن لا أقرأ هذه السورة: "حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا"؟ قال: نعم، حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدقوهم، وظن المرسل إليهم أن الرسل كَذَبوا، قال: فقال الضحاك بن مزاحم، ما رأيت كاليوم قط رجلاً يدعي إلى علم فيتلكأ! لو رحلت في هذه إلى اليمن كان قليلاً! .
وعن مسلم بن يسار أنه سأل سعيد بن جبير، فقال: يا أبا عبد الله، آية بلغت مني كل مبلغ: "حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا"، فهذا الموت، أن تظن الرسل أنهم قد كُذبوا"، أو تظن أنهم قد كَذَبوا، مخففة! قال: فقال سعيد بن جبير: يا أبا عبد الرحم، حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يستجيبوا لهم، وظن قومهم أن الرسل كذبتهم، "جاءهم نصرنا"
والحقيقة هى أن الياس من ايمان الكفار وتفسير ألآية هو :
"حتى إذ استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجى من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين "المعنى حتى إذا قنط المبعوثين وعلموا أنهم قد كفر بهم أتاهم تأييدنا فننقذ من نريد ولا يمنع عذابنا عن الناس الكافرين ،يبين الله لنبيه (ص)أن الرسل وهم المبعوثين (ص)إذا استيئسوا أى قنطوا من إيمان الناس وفسر هذا بأنهم ظنوا أنهم قد كذبوا والمراد علموا أنهم قد كفر برسالتهم جاءهم بأسنا والمراد أتاهم تأييد الله لهم فنجى من نشاء والمراد فننقذ من نريد وهم الرسل والذين آمنوا معهم مصداق لقوله بسورة غافر"إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا"ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين والمراد ولا يمنع عذابنا عن الناس الكافرين وهذا يعنى أن لا أحد يقدر على إيقاف العقاب عن الكفار
المصدر: منتديات فنان سات
rvhxm td ;jhf hgfdhk glukn hsjdzhs hgvsg (w)
..الموضوع الأصلي