منتدي عرب فور دون
موضوع بعنوان :السخرية والاستهزاء (وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا)
الكاتب :Ahmed Attia


بسم الله الرحمن الرحيم



السخرية والاستهزاء


﴿ وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا





لجوء العاجز عن الحجة إلى الاستهزاء والسخرية:

﴿ وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا * إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا * أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ [الفرقان: 41 – 44].



المناسبة بين المقطع وسابقه:

عودة من القوم إلى الطعن في الرسول، وهذه المرة لم يجدوا ما يثيرون حوله من شبهات فلجؤوا إلى السخرية والاستهزاء، وهو دليل إفلاس القوم وفراغهم الفكري والنفسي.




والحكمة في تأخير ذكر استهزائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم - والله أعلم - تكريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنه قيل: إذا كان القوم قد تطاولوا على الذات الإلهية فاتخذوا معه شركاء واعترضوا على طريقة نزول القرآن.. فلا غرابة أن يستهزئوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد انعكست عندهم القيم والمفاهيم فهم كالأنعام.. وفي كل ذلك تطييب لقلب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذكر استهزائهم به وتوقحهم عليه.



المعنى الإجمالي للمقطع:

لقد تفنن المشركون في المطالب وتعنتوا في إثارة الشبهات والاتهامات، فلما لم يروا جدوا من إثارة الأباطيل حول المعجزة، ولم يصلوا إلى غايتهم في ثني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المضي قدماً في تبليغ دعوة ربه، لجؤوا إلى السخرية والاستهزاء وهو علامة إفلاسهم الفكري، فلو وجدوا ملجأ أو مسرى في إثارة شبهة لما ادَّخروا وسعاً في ذلك.

لقد ألقى الله الحق على باطلهم فأزهقه ودحضه، وما أتوا بمثل إلا جاء الله بالحق وأحسن تفسيراً، فلم تبق لهم أرض يقفون عليها للحفاظ على كيانهم وزعاماتهم ومصالحهم، فليس أمامهم إلا الاستهزاء والتحقير والحط من شأن الرسول، ليصرفوا الناس عنه وعن الاستماع إلى دعوته ﴿ وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ * وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ﴾ [القلم: 51 - 52].




وكأني برسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من داره أو من مقر اجتماع بأصحابه وهو يعلّمهم القرآن الكريم، ويشرح لهم سنن الله في الدعوات والأقوام، ويمر بالقوم وهم في حلقهم حول الكعبة أو في مجالس لهوهم في الأسواق، فيشير بعضهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا ترون إلى هذا الذي يزعم أنه رسول يكلَّم من السماء؟! ويضرب بعضهم كفاً بكف وهو يقهقه إنه يدعو إلى عبادة إله واحد، ويستغرب الآخر ﴿ أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ [سورة ص: 5].

ويقول الثالث: وأين يذهب باللات والعزى ومناة، أين ذهب عقل هذا الرجل أما كان من أعقل الناس قبل دعوته هذه، لا بد أن الآلهة مسته بشيء في عقله.

ثم يرفع لغطهم وقهقهاتهم "إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها" كما أضل أبا بكر وعثمان وسعد بن أبي وقاص وهؤلاء الشباب والعبيد والإماء.

يا قوم لا تضيعوا تقاليد آبائكم ولا تفرطوا في الولاء لآلهتكم، فقد ورثنا هذا المجد وهذا العزّ كابراً عن كابر. فلا تضيعوا آثارهم...

"لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم ملء السمع والبصر بين قومه قبل بعثته، فقد كان عندهم ذا مكانة من بيته وهو من ذروة بني هاشم وهم ذروة قريش، وكان عندهم ذا مكانة من خُلقه وهو الملقب بينهم بالأمين. ولقد ارتضوا حكومته بينهم في وضع الحجر الأسود قبل البعثة بزمن طويل، ويوم دعاهم على الصفا فسألهم أيصدقونه لو أخبرهم أن خيلاً بسفح هذا الجبل قالوا: نعم أنت عندنا غير متهم.




ولكنهم بعد البعثة وبعد أن جاءهم بهذا القرآن الكريم، راحوا يهزؤون به ويقولون: "أهذا الذي بعث الله رسولاً"، وهي قولة ساخرة مستنكرة أكان ذلك عن اقتناع فيهم بأن شخصه الكريم يستحق هذه السخرية؟ وأن ما جاءهم به يستحق منهم هذا الاستهزاء؟ كلا، إنما كانت تلك خطة مدبرة من كبراء قريش للتصغير من أثر شخصيته العظيمة ومن أثر هذا القرآن الذي لا يقاوم، وكانت وسيلة من وسائل مقاومة الدعوة الجديدة التي تهددهم في مراكزهم الاجتماعية وأوضاعهم الاقتصادية، وتحررهم من الأوهام والخرافات الاعتقادية التي تقوم عليها تلك المراكز وهذه الأوضاع"[1].




وهذا شأن الضالين المفسدين في كل عصر فقد قال فرعون من قبلهم عن نفسه: ﴿ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾ [غافر: 29]. رافعاً من قيمته وقدره، وقال عن موسى حاطاً من شأنه: ﴿ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ﴾ [غافر: 26]. وقال أيضاً: ﴿ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ﴾ [الزخرف: 51 – 53].

وهؤلاء يقولون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا ﴾ [الفرقان: 42]، ﴿ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ﴾ [الزخرف: 31].

ولكن عندما تنكشف الحقائق وتزال الحجب، يظهر الهادي من الضال ويتميز المصلح من المفسد.




﴿ وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ [الفرقان: 42]. إن هؤلاء المشركين ليس لديهم أثارة من العلم المنقول يتبعونه في ضلالهم، وليس لديهم أسلوب من التفكير السليم يوصلهم إلى ما يعتقدونه، وليست عندهم حجة أو برهان من المحسوس يستندون إليها، إنهم يرددون كالبهائم شعارات جوفاء سمعوها من أسلافهم.

﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 170 – 171].




إن من يترك الموازين والمعايير الفكرية والعقلية، ويترك المعايير المستنبطة من العلوم المتوارثة عن الديانات السابقة، ويترك الأعراف التي تعارفها العقلاء من الناس في الاحتكام إليها. يترك كل ذلك، ويلجأ إلى هواه، فكيف السبيل للتفاهم معه وشده إلى مقاييس وموازين في المناقشة، وإقامة الحجة والبرهان عليه. ﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ﴾ [الفرقان: 43]. أليس هؤلاء المخلوقات تكون في هذه الحالة أشبه بالدواب التي لا تعرف إلا ردود أفعال وانعكاسات للغرائز تجاه ما تحس به؟ بل هؤلاء الذين أعطوا ملكة العقل والتفكير ثم عطلّوها واتبعوا أهواءهم ﴿ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ [الفرقان: 44] إن البهائم لم تستخدم ما وهبها الله في غير ما خلقت له، والبهيمة تقدر من أحسن إليها فلا تؤذيه، والبهيمة لم تتخذ مع الله إلهاً آخر بل تسبح الله وتحمده ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [الإسراء: 44].




إنه تحقير لهؤلاء الذين تركوا ما ميزهم الله به عن سائر المخلوقات، واستهزاء بحالهم أيما استهزاء. وهو استهزاء مستند إلى سبب، والعلة والحكمة واضحة، واستحقاقهم لهذا التحقير والاستهزاء واضح مسلَّم به. خلاف استهزائهم الجائر الوقح برسول الله صلى الله عليه وسلم.



المناسبة بين المقطع ومحور السورة:

لقد اشتمل المقطع على دفع شبهة وطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث استخدم المشركون سلاح السخرية والاستهزاء للحط من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرد الله كيدهم في نحرهم، وبين أنهم محل الاستهزاء المستحقون له لانحطاطهم إلى دركات الجهل والبهائم العجماوات، وهذا الدفاع من صلب محور السورة، حيث لا يبرز صدقه ولا تظهر مكانته إلا إذا أزيح ركام الباطل وقتم الأراجيف عن شخصيته النبيلة الطاهرة.


المصدر / الالوكه